الدكتور منذر الفضل
اذا كانت القاعدة العامة في ميدان الفقه الاسلامي وعلم القانون تنص على ان الاقرار بالديون المدنية حجة قاصرة على المقر وهو دليل فقهي وقانوني يثبت مشغولية الذمة بالدين في ميدان المعاملات المالية , واذا كان الاعتراف هو سيد الادلة في ميدان علم القانون الجنائي ودليل على وقوع الجريمة من الفاعل والمساهمين معه مما يستوجب العقاب على المنفذ لها وكل من شارك وخطط وساعد وحرض عليها , فان الاصل من الناحية الدستورية والقانونية ان المتهم برئ حتى تثبت ادانته ( المادة 19 من الدستور العراقي ) . حيث ان للمتهم مجموعة من الحقوق منها حقه في محاكمة عادلة وفي توكيل محام وحقه في حسن المعاملة طبقا للقانون اي لا يجوز انتزاع الاعترافات منه بالقوة او بالترغيب او الترهيب , وغيرها من الحقوق والضمانات في مراحل الاتهام والتحقيق والمحاكمة التي اصبحت متعارف عليها دوليا حيث نص عليها الاعلان العالمي لحقوق الانسان لعام 1948 والبروتوكولات الملحقة به .لقد انشغل الرأي العام في العراق وربما خارجه ايضا منذ اسابيع بواقعة الاتهام الذي تعرض له طارق الهاشمي الذي شغل منصب نائب رئيس جمهورية العراق وهو منصب سيادي مهم حيث عرضت قناة العراقية بعض الحمايات الشخصية للهاشمي واعترفوا صراحة وطواعية بارتكابهم للعديد من الجرائم القذرة الخطيرة التي تدخل ضمن قانون مكافحة الارهاب رقم 13 لسنة 2005 ( المادة 4 ) .وقد تبين من الاعترافات وسير التحقيقات المعلنة بان الهاشمي قد لعب دورا كبيرا في هذه الاعمال غير المشروعة التي تدخل ضمن نطاق المساهمة في الجريمة وفقا لقانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل , كما تبين من مصادر مختلفة بأن هناك سلسلة اخرى من الاعترافات من العاملين في مكتبه الشخصي بأنهم قد ساهموا وشاركوا وحرضوا على تنفيذ جرائم ارهابية اخرى في داخل العراق راح ضحيتها كثير من المدنيين الابرياء .نحن نعتقد بأن قضية الاتهامات التي وجهت للهاشمي في مساهمته مع بعض افراد حماياته والعاملين في مكتبه في هذه الجرائم باعتباره محرضا وشريكا فيها هي قضية جنائية وليست لها علاقة بالسياسة , وهي تدخل ضمن الجرائم العادية اي ليست جريمة سياسية , لان هناك فرقا كبيرا بين الجريمة العادية التي ترتكب بباعث دنيء وبين الجريمة السياسية التي ترتكب لغرض سياسي . بل وحتى الجريمة السياسية عندما ترتكب بباعث دنيء تتحول الى جريمة عادية .ولاشك ان وصف الجرائم المرتكبة والمتورط بها الهاشمي تدخل ضمن نطاق الجرائم الدولية ( International Crimes ) لأن الجريمة الارهابية تدخل ضمن وصف الجرائم الدولية حيث انها جرائم ترتكب عن تعمد وقصد ( القصد الجنائي ) وهي ينطبق عليها وصف ( جناية عمدية كبرى ) ولهذا فان هذه الجرائم المرتكبة لا تسقط بمرور الزمان مهما مضت المدة الزمنية ولا توصف بأنها من الجنح او المخالفات ولا يجوز العفو فيها عن الفاعلين سواء في النظام القانوني العراقي حيث نصت المادة 73 من الدستور العراقي ما يلي : (( يتولى رئيس الجمهورية الصلاحيات الاتية :
أولاً : اصدار العفو الخاص بتوصية من رئيس مجلس الوزراء بأستثناء ما يتعلق بالحق الخاص والمحكومين بأرتكاب الجرائم الدولية والارهاب والفساد المالي والاداري . )) ام في القانون الدولي , ولهذا يجب محاسبة كل من تثبت عليه الادلة القانونية , ولا يحق له طلب اللجوء السياسي ولا الانساني ابدا .و من الملاحظ بأن التصريحات التي ادلى بها الهاشمي من خلال وسائل الاعلام حول هذه الاتهامات قد لبست ثوبا قوميا عروبيا تحت عباءة اسلامية - مذهبية كشفت عن حالة الارتباك الواضح عنده , حيث اختفى لفترة ثم ظهر للاعلام بتصريحات مشوشة و حاول جر هذه القضية باتجاه اخر وجعلها قضية سياسية مفبركة من خصومه السياسيين !؟ , وصار يرمي الاتهامات يمينا وشمالا ويضع شروطا للمثول امام القضاء منها تحديد مكان المحاكمة وزمانها واختيار القضاة , بل بلغ الحد به الى تهديد القضاة يوم 26 -12- 2012 من خلال وسائل الاعلام و هم 9 قضاة من ذوي الخبرة المهنية , وبسبب هذا التعنت فقد ارسل اقليم كوردستان مجموعة من القضاة في الاقليم للاطلاع على ملف هذه القضية والاجراءات القضائية الخاصة بها وتبين لهم بعدها بأنها سليمة قانونيا وليس عليها اية شائبة .ولاشك ان السيد رئيس الجمهورية والسيد رئيس اقليم كوردستان والسيد رئيس الوزراء نوري المالكي صرحوا منذ البداية انهم مع احترام القانون ومع اي حكم يصدر من القضاء وان الهاشمي يجب ان يمثل امام القضاء .ان طارق الهاشمي بهروبه الى كوردستان قد خرق الدستور والقانون وحاول طلب اللجوء في تركيا , إلا ان تصريح وزير خارجية تركيا داوود اوغلو كان واضحا حيث قال لهيئة الاذاعة والتلفزيون التركية ( ابوابنا مفتوحة امام نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي ولكن يجب ان يبقى في بلده للمساهمة في ايجاد حل للعملية السياسية في العراق بصفته رجل دولة ) وهو رد دبلوماسي برفض لجوء الهاشمي الى تركيا . وذات الرفض ايضا جاء من المملكة العربية السعودية . كما المسؤولين في حكومة اقليم كوردستان قد صرحوا اكثر من مرة بانهم يحترمون حكم القانون والقضاء العراقي ولم يعترضوا على مثول الهاشمي امام القضاء . يضاف الى ما تقدم فان السيد رئيس الوزراء نوري المالكي سبق ان ابلغ الرئيس الامريكي اوباما بتورط الهاشمي في جرائم ارهابية , وبالتالي فان هذه القضية هي قضية قانونية بحتة ولا يمكن لعاقل ان يقف ضد الدستور او يعطل القانون ويحجب حقوق الضحايا .ثم ان القضاء العراقي في العاصمة بغداد هو المختص للنظر في قضية الهاشمي ومجموعة الارهابيين معه ولا يجوز الطعن او التشكيك بنزاهة القضاء الاتحادي كما لا يحق لأي متهم ان يختار مكانا غير المكان الذي حدده القانون العراقي والقضاء للمحاكمة . لهذا فقد تم رفض طلب الهاشمي بنقل الدعوى الى اقليم كوردستان من قبل محكمة التمييز العراقية لعدم وجود مبرر قانوني لذلك . وعلى هذا الاساس صار على الهاشمي وجميع المتهمين معه المثول امام القضاء طواعية او قسرا لانهم ليسوا فوق القانون ولا يجوز ان يفلتوا من العقاب لاسيما وان القضاء العراقي مستقل ولا يجوز الطعن بنزاهته ولا بسمعته ولا بمهنيته حيث قتل اكثر من 48 قاضيا عراقيا ودفعوا حياتهم ثمنا لمواقفهم الشجاعة في احترام القانون وتطبيقه .ان حق الدفاع مقدس ومكفول في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة طبقا للدستور العراقي ( المادة 19 ) وعلى الهاشمي ان يمتثل لحكم القضاء ويحترمه سواء أكان مذنبا ام غير مذنب اذ يجب ان يكون قدوة لغيره في الخضوع الطوعي للقانون حيث لا توجد حصانة دستورية ولا قانونية لأي مسؤول في الدولة العراقية عدا اعضاء مجلس النواب الذين في حالة ارتكاب اي عضو منهم لأية جريمة ترفع الحصانة عنه اولا ومن ثم يقدم للقضاء ( انظر نص المادة 63 من الدستور العراقي ), فالحاكم والمحكوم والقوى والضعيف والغني والفقير تحت طائلة القانون ولا شئ غير القانون وبدون ذلك ستغرق البلاد في بحر من الفوضى مثلما كان الحال في زمن حكم صدام وحزبه النازي الذي دمر العراق والمنطقة وهدد العالم واستحق هو واتباعه ورموز نظامه الفاشي لعنة التاريخ .ان طارق الهاشمي - ومن خلال متابعة سلوكه وتصريحاته - لا يصلح لمثل هذا المنصب السيادي ولا لغيره من المواقع في الدولة لأنه محرض للفتنة وصانع لها ويتبنى خطابا طائفيا تحريضيا خطيرا والادلة على ذلك كثيرة , بينما يجب على اي مسؤول حكومي او سياسي ان يتجنب ذلك . ولكي يكون المسؤول ناجحا لابد ان يطهر نفسه من التعصب والتطرف وان يتبنى خطابا يتضمن قواعد انسانية واخلاقية سامية وان يحترم الدستور والقانون وان يسهم في بناء الدولة والمجتمع وان يعزز دور القضاء واستقلاليته ويشيع المحبة والانسجام بين كل القوميات واتباع الديانات والمذاهب وان يكون كبيرا في مواقفه ونزيها وعفيفا ومنحازا للحق ضد الباطل وبدون ذلك فان الفشل سيكون حليفه وهذا هو مصير الهاشمي وغيره من العراقيين الهاربين خارج البلاد .ونشير هنا الى ان الدكتور اياد علاوي كان قد صرح بأن ( الاتهام ضد الهاشمي هو جريمة سياسية !!) وبتصريحه هذا فانه اولا قد ثبت التهمة على طارق الهاشمي, وثانيا وقع في خلط كبير , فهو لا يفرق بين الجريمة العادية والجريمة السياسية , وهذا سببه الارتجال والانحياز العاطفي ونقص المعرفة القانونية . حيث نؤكد مرة اخرى هنا بأن الجرائم المرتكبة من حمايات الهاشمي والتي تورط بها الأخير باعتباره شريكا فيها , ليست من صنف الجرائم السياسية مطلقا وانما جرائم عادية تدخل ضمن صنف جرائم الارهاب وهي نوع من انواع الجرائم الدولية الخطيرة التي يستحق فاعلوها العقاب تطبيقا للقانون وللعدل والعدالة .يضاف الى ذلك فأن طارق الهاشمي يواجه تهما اخرى منها التستر على ابن شقيقته ( المتهم الهارب اسعد الهاشمي وزير الثقافة السابق ) المتورط باغتيال اولاد مثال الالوسي وتهريبه خارج العراق , فضلا عن ان طارق الهاشمي كاد ان يشعل فتنه كبيرة في العراق في قضية عرفت ب ( قضية صابرين الجنابي ) التي ادعى فيها بأن المذكورة قد تعرضت للاغتصاب من الاجهزة الامنية لكونها من العرب السنة وتبين لاحقا كذب هذه الادعاءات وان الغرض منها كان اثارة الفتنة الطائفية وهذه جريمة كبرى . هذا فضلا عن وجود اتهامات اخرى ضد طارق الهاشمي لابد للقضاء التحقق منها لخطورتها منها التعاون مع المتهم نعمان الراوي الذي شغل منصب نائب رئيس محكمة التمييز , في تعطيل عشرات الاحكام القضائية الصادرة ضد المجرمين الارهابيين الذين اغرقوا العراق في جرائمهم ضد الابرياء .بناء على ما تقدم فان طارق الهاشمي لا يتمتع بحصانة دستورية ولا قانونية وهو ليس فوق القانون ولا فوق الدستور , وان قضيته بعيدة عن السياسة وفي يد القضاء . لا بل انه قد خرق نص المادة 50 من الدستور العراقي وحنث في القسم الذي أداه امام الشعب مما يوجب محاسبته عن هذا الخرق الدستوري ايضا .
https://telegram.me/buratha