سماحة السيد حسين الصدر
للأمام الحسين - عليه السلام - سيرةٌ موّارة بالعبق والألق ، ولابُدّ ان ننتهل الدروس من ينابيع عطاءاتها ،ونستلهم شيئاً من تلك المدرسة الخالدة ،في خضّم مساراتنا الحياتية ،التي اختفت منها - في معظم الحالات- نكهة الانسانية الحقيقيه ،وانكفأت ملامح الموضوعية الى حد بعيد ..!!يقول المرحوم الاستاذ الشاعر محمد صادق القاموسي :عزّ على يومك يوم الاباءْ أنك لا تُرثى بغير البكاءْوأنَّ ذكراك على ما بها من عِظةٍ تُوحي لنا ما نشاءْمدرسةٌ يجهل طلاّبُها على م تَشْييدُكَ هذا البناءْ وهذه السطور ، جولة سريعة ، في رحاب المناقبية الفذة ،والمروءات الباهرة ، التي التمعت في كل سطر من سطور ذلك السِفر الفريد ،الذي كتبه أبو عبد الله الحسين (ع) بفيض من عظماته وسماته المتميزة :-1-ان الحنّو على المستضعفين ، وحمل هموم المساكين ،والتصدي لإنعاشهم، وتموينهم بما يرفع عنهم سُعار الحاجة ويخفف وطأة الفاقة والحرمان ، ظاهرة بارزة في حياة الامام الحسين (ع) .تقول كتب السير والتاريخ :( وُجِدَ على ظهر الحسين بن علي (ع) يوم الطف ،أَثَرٌ فسألوا زين العابدين (ع) عن ذلك ؟ فقال :هذا مما كان ينقل الجراب على ظهره ،الى منازل الأرامل واليتامى والمساكين) إنّ اصدار الاوامر الى غلمائه وخدمه بحمل تلك المؤن الغذائيه الى بيوت الفقراء لم يكن دَيْدنه بل كان يحملها بنفسه ، ويتجه في غلس الليل البهيم ، الى تلك البيوت لئلا يعرفوه ، في عبادة اجتماعية رائعة يتقرب فيها الى الله من خلال رعاية عبيده المحتاجين .انه التواضع في أعلى صوره وحالاته ،وانها المواساة الصادقة للضعفاء والفقراء والأرامل والايتام والمساكين .وانها لمسات الحنان والانسانية الرائعة .وهكذا يعلمّنا الحسين (ع) بالفعل لا بالقول ما ينبغي علينا ان نمارسه مع اصحاب الأكباد الحِرار من الجياع والمساكين ...والسؤال الآن :كم من الزعماء والرؤساء مَنْ يحتّل الفقراء حيّزاً حقيقياً في فضاء اهتماماته ؟وكم منهم من يسعى جاهداً للتخفيف عنهم ؟وكم منهم من يفتح بابه لوصولهم اليه حيث لا يصل اليهم ؟وكم هم أولئك القادرون على الاسهام في هذا الجانب - جانب تقديم العون والمساعدات الاجتماعية لمستحقيها - وهم عنها ساهون بعيدون؟ان الحسين هنا يُذّكر الجميع بالأولويات الاجتماعية التي لا يسوغ نسيانها ان التكافل الاجتماعي أساس من اسس استقرار المجتمع ،وتعميق أواصر المحبة بين أبنائه ، ناهيك عما ينتظرهم من الثواب الجزيل في الآخرة .والعراق اليوم ، على ما تشير اليه الاحصاءات ، يشهد في كل زاوية من زواياه أزدحاماً للأيتام والأرامل والمعوزين ، بعد ان انهكته الدكتاتورية البائده بالمجازر الجماعية والحروب ، وبعد ان كانت حصيلة الاحتلال قوافل ضخمة من الشهداء ..ان الدمعة الساخنة على الحسين ، تعني فيما تعني ، الرقة والانسانية ورفض الظلم ،وليس ثمة من طريق أفضل لترجمة ذلك عملياً غير التوجه الفاعل نحو هذه الشريحة المظلومة المحرومة ...-2-وتذكر كتب السير والتاريخ ان اعرابيا وفد الى المدينة المنورة فسأل عن أكرم الناس ؟فقيل له :انه الحسين بن علي وهكذا سار متجها الى دار الحسين (ع) فقرع الباب وأنشد :
لم يخب اليوم مَنْ رجاك وَمَنْ حرّك من خَلْف بابك الحَلَقهفأنتَ ذو الجود أنتَ معدنُه أبوك قد كان قاتل الفَسَقَهلو لا الذي كان من أوائلكم كانت علينا الجحيمُ مُنْطَبقهيقول المؤرخون :كان الامام الحسين حين أنشد الاعرابي شعره ، في مناجاة مع ربه عبر الصلاة ، فخفف صلاته ، وخرج اليه واستمهله ، ولم يكن لديه الا مائتا درهم أخذ الدراهم ، ونَزَعَ بُرْدَهُ ، ولَفّ المال به ، ومدّ يده من شق الباب الى الأعرابي ، وهو يتعذر منه ، قائلاً :خذهـــــــــــــــا فاني اليك مُعْتَذرٌ وأعلم بأني عليكَ ذو شَفَقه لو كان في سيرنا -الغداة- عصاً كانت سمانا عليك مندفقهلـــــــــــكنّ ريب الزمان ذو غير والكفُّ منا قليلةَ النفَقه تاريخ ابن عساكر ج4 / 324 وفي هذا الخبر محطات لا بد من الوقوف عندها قليلاً :الاولى :ان الامام الحسين (ع) خفّف صلاته حين أحسّ بصاحب الحاجة ، في اضاءة بالغة الاهمية ،عن كيفية التعامل مع المكروبين من أصحاب الحاجات ....ان الحسين (ع) يُقبل على صاحب الحاجة ، بينما يفر الكثيرون منا من أصحاب الحاجات .لماذا يحتجب المسؤولون عنهم ؟! لماذا يتهرب معظم الموسرين من المعدمين ؟!الثانية :ان الامام الحسين أجاب عن الشعر بالشعر ، ورّد التحية بأحسن منها وهذا هو الخلق القرآني .الثالثة :تحاشى الامام الحسين (ع) ان يواجه السائل ، لئلا يرى ذل السؤال في وجهه لقد مدّ يده من شق الباب وناوله العطيه وهذا منتهى اللطف والنبل والانسانية وحين ينتصر الانسان على ذاته ، ويكون القصد الموضوعي حاضراً ، يصبح ملاكاً، لابل يفوق الملاك .ان الحفاظ على ماء الوجوه ، وصيانتها قيمة انسانية كبرى لها ثقلها في الميزان وهذا ما يريده الحسين منّا .-3-وروى بعض المؤرخين ان الامام الحسين (ع) ذهب مع أصحابه الى بستانه ذات يوم ، وكان في ذلك البستان غلام له اسمه ( صافي ) فلما قرب من البستان راى الغلام قاعداً يأكل خبزاً فنظر الحسين اليه ، وجلس عند نخلة مستتراً فكان الغلام يرفع الرغيف ، فيرمي بنصفه الى الكلب ، ويأكل نصفه الآخر فتعجب الحسين (ع) من فعل الغلام فلما فرغ من أكله قال .. الحمد لله رب العالمين ، اللهم اغفر لي واغفر لسيدي ، وبارك له كما باركت على أبويه برحمتك يا ارحم الراحمين فقام الحسين ونادى الغلام باسمه ، ففزع الغلام وقال :يا سيدي وسيد المؤمنين اني ما رايتك فاعف عني فقال له الحسين :اجعلني في حلّ - ياصافي - لأني دخلت بستانك بغير اذنك فقال صافي :بفضلك ياسيدي وكرمك وسؤددك تقول هذا ، فقال الحسين :رأيتك ترمي بنصف الرغيف الى الكلب وتأكل النصف الآخر ، فما معنى ذلك ؟فقال الغلام .ان هذا الكلب ينظر اليّ حين أكل ، فاستحي منه ياسيدي لنظره اليّ وهذا كلبك يحرس بستانك من الأعداء فأنا عبدك وهذا كلبك فأكلنا رزقك معاًفبكى الحسين (ع) وقال :أنت عتيق لله وقد وهبت لك ألفي دينار بطيبة من قلبي فقال الغلام :ياسيدي انت اعتقتني فأنا اريد القيام ببستانك قال الحسين :ان الرجل اذا تكلم بكلام فينبغي ان يصّدقه بالفعل فأنا قد قلتُ دخلتُ بستانك بغير أذنك ، فصّدقت قولي ووهبت البستان وما فيه لك غير ان اصحابي جاؤوا لأكل الثمار والرطب ، فاجعلهم أضيافاً لك ، وأكرمهم من أجلي ، أكرمك الله يوم القيامة ، وبارك لك في حسن خلقك وأدبك .فقال الغلام :ان وهبتَ لي بستانك فأنا قد سبّلْتهُ لأصحابك وهنا يدعونا الحسين (ع) الى :مكافأة صانعي الجميل وتقديرهم .وأن نصدّق القول بالفعل وهما درسان اخلاقيات بليغان ما أحوجنا اليهما ، في ظل انكماش القيم الاخلاقية ، وضمور الروح الانسانية ان منح البستان ( لصافي ) ، كان الترجمة العلمية من قبل الامام الحسين ( عليه السلام ) لأقواله ،ولا شيء أعظم من ان نقرن القول بالفعل ، لنكون من الحسينيين
https://telegram.me/buratha