( بقلم: السيد حسن الهاشمي )
عاشوراء، كربلاء، الإمام الحسين عليه السلام، ثلاث كلمات تتعانق فيما بينها وترتبط ارتباطا وثيقا في المعنى والحقيقة، كلمات محفورة كالأخاديد في ضمير الوجدان الإنساني، كلمات يشدها إلى بعضها رباط العقيدة ورباط الآلام والأحزان ورباط المظلومية والدماء المسفوحة على الرمال، التي فجرت طوفانا دمويا أطاح بكبرياء الطغاة عبر العصور، كلمات مخطوطة بقلم علوي، مداده دماء متدفقة في عروق المؤمنين الذين تآلفت قلوبهم على حب آل الرسول.
ملحمة كربلاء هي حقيقة التضحية، حقيقة الإيثار، حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حقيقة الجهاد في سبيل الله، حقيقة الإباء، حقيقة العزة الإلهية، حقيقة الكرامة، حقيقة الإنسانية، حقيقة الرحمة، حقيقة الحكمة، حقيقة العدالة. فأي رابطة تربطنا بهذه المعاني المقدسة؟! نحن نرتبط بها من الناحية الحياتية والقلبية والعقائدية.
أما الحياتية، فأصل وجودنا من الحسين عليه السلام، وهذا واضح في حديث الكساء الشريف فالنداء الإلهي نقرأه في هذا الصدد: يا ملائكتي ويا سكان سمواتي إني ما خلقت سماء مبنية ولا أرضا مدحية ولا قمرا منيرا ولا شمسا مضيئة ولا فلكا يدور ولا بحرا يجري ولا فلكا يسري إلا في محبة هؤلاء الخمسة الذين هم تحت الكساء، فسئل جبرئيل الأمين، ومن هم يا رب الذين تحت الكساء؟ فإذا بالنداء الإلهي، هم أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها.
وجودنا في أصله متفرع عن وجود الحسين عليه السلام، وإن كان المعصومين كلهم نور واحد وطين واحد وحقيقة واحدة ومقامهم واحد ومرتبتهم واحدة، بيد أن في المقام حيثيات، فللحسين خصوصية انفرد هو بها دون غيره من الأنوار الإلهية، لا أقصد بهذه الخصوصية أنه يتميز عن آبائه وأبناءه صلوات الله عليهم أجمعين في الطينة والنورية، ثمة خصوصية تتعلق بسيد الشهداء نوهت إليها رواية الشيخ الصدوق في كتابه علل الشرائع، عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، يسأل الصادق عليه السلام قال يا بن رسول الله: كيف صار يوم عاشوراء يوم مصيبة وغم وجزع وبكاء دون اليوم الذي قبض فيه رسول الله واليوم الذي ماتت فيه فاطمة واليوم الذي قتل فيه أمير المؤمنين واليوم الذي قتل فيه الحسن بالسم، فأجابه الإمام الصادق عليه السلام فقال: إن يوم الحسين مصيبته أعظم من سائر الأيام، لأن أصحاب الكساء، والذين هم من أكرم الخلق على الله عز وجل، كانوا خمسة فلما قبض النبي بقي منهم أربعة، فكان فيهم للناس عزاء وسلوة وهكذا كلما مضى واحد منهم كان الباقي منهم عزاء وسلوة، ولما قتل الحسين عليه السلام، فلم يبق أحد من أصحاب الكساء، فكأن ذهابه ذهابهم جميعا، كما كان بقاؤه بقائهم جميعا، ولذا كانت مصيبته أعظم المصائب.
ولربما إلى نفس هذا المعنى، أشارت العقيلة زينب عليها السلام في ليلة العاشر من المحرم، لما كان الإمام الحسين يصلح سيفه وينشد الأبيات المعروفة: يا دهر أف لك من خليل كم لك بالإشراق والأصيللما سمعته العقيلة وعرفت أنه ينعى نفسه قالت: واقتلاه ليت أن الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن، يا خليفة الماضين وثمال الباقين.. نفس المعنى الذي أشار إليه الإمام الصادق عليه السلام، فبلحاظ هذه الخصوصية أشرت إلى أن وجودنا متفرع عن وجود الحسين عليه السلام، وإلا فوجود الكائنات طرا إنما هو متفرع عن وجود نورية أهل البيت كما تشير إلى هذا المعنى الكثير من الروايات المعتبرة. وثمة رابطة تربطنا بالإمام الحسين وهي رابطة الفطرة والقلوب والوجدان، تلك الرابطة التي تنادي في أعماق الإنسان المؤمن، وأن حرارة استشهاده عليه السلام تبقى تتلظى في قلبه وأنها لا تبرد أبدا، ربما في هذين الحديثين الشريفين إشارة واضحة إلى هذه الرابطة، الحديث الأول يذكره الشيخ الصدوق في كتابه الخصال عن أمير المؤمنين إذ يقول عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى اطلع إلى الأرض فاختارنا واختار شيعة ينصروننا يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا، أولئك منا وإلينا.
والحديث الثاني في بحار الأنوار ينقله الشيخ المجلسي عن النبي الأعظم، أنه كان يحدث فاطمة عليها السلام عن الذي سيلقاه أبو عبد الله عليه السلام من المحن والآلالم، فكانت تبكي بكاء شديدا ثم تسأل النبي تقول يا أبت في أي وقت يكون ذلك؟ فيقول رسول الله يا فاطمة أن ذلك يكون في زمان خال مني ومنك ومن علي، فيشتد بكاءها ثم تسأله وتقول: يا أبت فمن يبكي عليه؟ فيقول صلى الله عليه وآله يا فاطمة نساء أمتي يبكين على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي ويقيمون العزاء ويجددونه جيلا بعد جيل في كل سنة، وإذا كان يوم القيامة فأنت يا فاطمة تشفعين للنساء وأنا أشفع للرجال، فمن كان منهم قد بكى على مصاب الحسين أخذنا بيده وأدخلناه الجنة، ثم يقول يا فاطمة كل عين باكية يوم القيامة إلا عين بكت على مصاب الحسين، فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة، هذه هي الرابطة القلبية والرابطة الوجدانية التي تربطنا مع الإمام الحسين. ورابطة ثالثة لنا مع عاشوراء هي الرابطة العقائدية، فرمال الغاضريات ووادي كربلاء كان منحرا للإمام، هناك قتلت الإمامة جسدا وإنما تشعشعت فكرا وثورة، والإمامة إذا قتلت لا تموت، لأن الإمام المعصوم في كل حالاته شاهد وشهيد ومستشهد ومشهود من قبل الله سبحانه تعالى، فالعقيلة عندما تخرج إلى جسد أبي عبد الله وتجده منحورا فتضع يديها تحت الجسد الشريف وترفعه إلى السماء، وتقول اللهم تقبل منا هذا القربان.
والرابطة العقائدية التي تربطنا مع الحسين عليه السلام هي مرهونة ببقاء المذهب والدين، لذلك أن بعض المؤرخين يقولون أن المذهب الشيعي ثبت بعد واقعة الطف، بالرغم من أن بزوغه كان في زمن الرسول، على خلاف بقية المذاهب التي تأسست بعد الرسول بعقود بل بمئات من السنين!!! فكما أن ديننا كانت ولادته الأولى في زمن الرسول، فكانت الولادة الثانية والحقيقية لمذهبنا ولديننا ولعقيدتنا في كربلاء بعد واقعة الطف.
كربلاء منحر الإمامة، والإمامة في حقيقة الأمر إذا قتلت كانت حية في كل أحوالها، قتل الإمامة جسدا حياة للإمامة عقيدة وفكرا، إذ أن كربلاء قدم فيها قربان الإمامة، ومنها تبدأ الثورة الحقيقية الواقعية لبناء الإنسان، أليس ظهور الحجة المنتظر في العاشر من المحرم مناديا يا لثارات الحسين خير دليل على هذه الرابطة العقائدية المستمرة التي تربطنا مع كربلاء، من بين الركن والمقام في مكة المكرمة إلى كربلاء المقدسة، يرتفع لواء فتح الإمامة بيد الإمام المهدي الطالب بالثار والمنتقم من الظالمين.وهذه الرابطة هي نفسها التي عبر عنها الإمام الصادق عليه السلام عندما خاطب جده الإمام الحسين عليه السلام: ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة، إذ أن ثورته كانت في حقيقة الأمر بركانا ضد الجهل والكفر والضلالة، التي هي متكأ الظالمين وأعوانهم وبلغت أوجها في زمن يزيد بن معاوية وشريح القاضي، واستمرت إلى أتباعهم من الأنظمة الملكية المستبدة في عصرنا الحاضر ومن ينعق في فلكها من أمثال يوسف القرضاوي وبن جبرين وحارث الضاري، الذين قد حولوا من خلال تخرصاتهم وفتواهم اللعينة - الظالم إلى مظلوم في عراقنا النازف، وعتموا الذبح المنظم الذي يتعرض إليه أتباع أهل البيت عليهم السلام والتهجير والتفخيخ منذ أكثر من ثلاث سنين، وأخذوا يصبوا جام حقدهم على الضحية وحولوها إلى هالة مخيفة مسلطة على رقاب أهل السنة والجماعة في العراق تأليبا للوضع ضد نهجهم الإصلاحي الذي بات يقلق الجبابرة والطغاة، في أخبث صورة لتزوير الحقائق والوقائع، يساعدهم في ذلك الإعلام المضلل من فضائيات مأجورة وغيرها ديدنها النفخ في تأجيج الاحتراب الطائفي، لإبقاء الناس في مستنقع الجهل والضلال، بهما يكرس الظالمون ظلمهم، وضدهما ثار الحسين عليه السلام وما زال الموالون له سائرين على ذلك النهج القويم في تخليص العباد من شراك الظالمين وعلى مر العصور.
https://telegram.me/buratha