( بقلم : علاء الزيدي )
يجد الكاتب السياسي نفسه أحيانا ً في وضع لايـُحسد عليه . فهو مطالـَب من جمهوره - من جهة – بتحرّي الدقـّة في إطلاق التوصيفات واستخدام المصطلحات ، وهو – من جهة أخرى – واقع تحت ضغط الماجريات المتحركة على الأرض ، مايحدو به إلى إلقاء إزار التصنـّع ووشاح التظاهر جانبا ً ، بغية الإسهام في توعية الناس ، لاتخديرها ، وإن بدت عملية التوعية تطويحا ً وشيكا ً بسلم ٍ اجتماعي ٍّ بـُنـِي َ على معادلات مغلوطة ، استأثرت فيها قوى الأمر الواقع بحصص مضافة ، فوق حصتها ، الأكبر – ربـّما - من استحقاقها وحجمها في الأساس .
وحتى يخرج هذا الكاتب السياسي من إشكالية التحريض والتعريض ، يلزمه التأكيد منذ الحرف الأول و السطر الأول ، على أنه في صدد الحديث عن مواقف سياسية واجتماعية ، ينبغي التفريق بينها وبين العقيدة والمبدأ والدين . فلكل ميدان رجاله ونساؤه ، ونحن هنا سياسيون ليس أكثر ، وإذا أشرنا إلى سنـّة وشيعة ، فإنما نتحدث عن وجودين قائمين بمنظار سياسي .
تصاعدت حدّة اللغط في الآونة الأخيرة ، حول التبشير الشيعي بين صفوف السنـّة ، في العالم الناطق بالعربية والعالم المسلم . وكان قصب السبق في هذا المضمار لرجل الدين المصري المقيم في قطر يوسف القرضاوي ، المقرب من تنظيم الإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة الإرهابي على حد ٍّ سواء . ثم كبرت كرة الثلج ووصلت إلى يد الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز ، الذي أضفى في تصريحاته لجريدة " السياسة " الكويتية على اللغط المذكور بـُعدا ً رسميا ً ينطلق من هرمية عليا في النظام الرسمي السنـّي ّ العربي ، لم يكن القرضاوي قادرا ً على بلوغها مهما نفخت فيه " القاعدة " وقناتها التلفزيونية ( الجزيرة ) من عوامل عملقة وتضخيم .
جلـيٌّ وواضح إلى أبعد الحدود ، أن هذه الحملة ليست في وارد البحث عن حل ّ لتطويق مايسمونه بالمدّ أو التبشير الشيعي ، فكريّا ً وعقائديا ً . ذلك لعلمهم الأكيد كما يبدو أنه من غير الممكن محاصرة الأفكار واحتجاز العقائد وراء الأسوار . خاصة مع وجود مجتمعات وتجمعات شيعية في جميع بلدانهم على وجه التقريب ، بأحجام وكثافات سكانية متنوعة ، ومع تنامي الاستفادة من تقنيات الإنترنت والبث التلفزيوني الفضائي ، التي نقلت الفكرة ، بغضّ النظر عن طبيعتها ، إلى بيت المتلقـّي وأحيانا ً إلى غرفة نومه . مابالك بالفكرة الصافية والنقية التي حوصرت طويلا ً . هم يلاحقون – إذن – البـُعد السياسي للقضية ، أو بالتحديد : احتمالات " خطف " السلطة من أيديهم ، على يد هذا الشيعيّ المنافس !
الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز آل سعود ، كان واضحا ً في تصريحاته ، في هذا المجال . فقد تحدث عمـّا أسماه بالسلطة التاريخية للسنـّة في العالمين الناطق بالعربية والمسلم ، وعدم سماحهم للشيعة بمنازعتهم عليها من خلال التبشير والتشييع . ولعل من الخطأ التصور أن العاهل السعودي يقصد إيران بهذا المنازِع أو المنافس . فهو وإن قصدها كوجود شيعي مضاف إلى سائر الوجودات الشيعية في العالمين ، لكنه يقصد شيعة العراق تحديدا ً ودون أدنى ريب يخالجني .
لدعم هذا الرأي ، لابأس باستذكار ما طالب به نائب الرئيس العراقي جلال الطالباني ، طارق الهاشمي ، الرئيس الأميركي جورج بوش ، ويطالب به علنا ً وبشكل متواصل ، وهو تسليم السنـّة في العراق المفاصل الأساسية في النظام الأمني للعراق الجديد ، أي بدقـّة : الجيش والشرطة والمخابرات ، بحجـّة أن من شأن ذلك تمكين النظام الرسمي العربي من ترميم وتدعيم خطـّه الدفاعي في وجه " المطامع " الإيرانية ، ولخدمة المصلحتين ، العربية والأميركية . أي ، أن الحديث يدور هنا عن ثغرة أمنية أو Gap تمثلها الأغلبية الشيعية العراقية بين العالم الناطق بالعربية وإيران ، ينبغي ردمها لخدمة المصلحة المشتركة بين النظام الرسمي للأعراب وبين واشنطن .
توصلنا الحقائق المذكورة آنفا ً إلى نقطة شديدة الوضوح ، هي أن التهديد الأول والرئيس لسلطة السنـّة التاريخية في العالمين الأعرابي والمسلم تأتي من وجود الأغلبية الشيعية العراقية على رأس هرم السلطة في بلادها . والتبشير المعني ّ ، هو إعلامها وقنواتها وتصريحات قادتها المتتالية ليل نهار ، على بساطة وبدائية هذا الإعلام وتلك القنوات والتصريحات . والمرحلة القادمة ستشهد محاولات حثيثة لتطويق أية احتمالات لتكرار المشهد العراقي ، أي : تكرار " خطف " السلطة التاريخية للسنـّة ، سواء ً في لبنان ، أو البحرين ، أو السعودية ، أو اليمن ، أو حتى مصر وشمال أفريقيا التي بدأ فيها السكان الأصليون المهمـّشون " الأمازيغ " بالعودة الجماعية إلى مذهبهم الشيعي الفاطمي .
من هنا ، لاحظنا كيف اتفقت كلمة الأعراب والوزارة السنـيّة ودار الإفتاء السنـّية في لبنان ، على وضع ما أسموه بخط ٍّ أحمر على تهديد استئثار السـنـّة بحصة الأسد من الوزارة ، وببيروت معا ً . فمثلما رجف عندنا رئيس جبهة التوافق السنـّية عدنان الديلمي وارتعش ، ونظـّم مظاهرات حشد لها الناس من هنا وهناك تحت شعار " بغداد إلنا وما ننطيها " ، انتفخت أوداج المفتي السنـّي في لبنان رشيد قباني هاتفا ً بشعار : " بيروت خط ّ سنـّي ّأحمر " !
وهكذا ، فالتبشير والتشييع ، يعنيان ، " منازعة " القوم على سنـيّة الحواضر ( العواصم ) بما تعنيه من رمزية ، وسنـّية السلطة بماتعنيه من هيمنة تاريخية صنعها الأمر الواقع وقرارات السلطات . فقد فرض العباسيون – مثلا ً – المذاهب السنـّية الأربعة رسميا ً ، وبنوا بغداد واتـّخذوها عاصمة لملكهم ، لنقل الرمزية العراقية من الكوفة ، بما تعنيه من تشيـُّع ماضيا ً وحاضرا ً و .. مستقبلا ً أيضا ً ( هيهات ) .
على الطرف الآخر ، ماذا بوسع الشيعة أن يفعلوا ؟الأنظار مسمـّرة اليوم ، على شيعة العراق ، حاكمين ومحكومين . فهم مادة كل التصريحات والتخرصات . وهم هدف كل رمية وصلية . وهم المطلوب حيـّا ً أو ميـّتا ً . وليس هذا انتقاصا ً من شأن إيران أو لبنان أو سمرقند أو بخارى . فالأطراف الشيعية غير العراقية محكومة بعوامل واعتبارات أخرى ، وليس أدل ّ من ذلك من حيرة قادة حزب الله اللبناني وخاصة السيد الشاب حسن نصر الله إزاء معركتهم الحالية . فهم أحرص على دماء حماس وفتح من عتاة النواصب وسلالة بني أمية الذين انتقم الله منهم للحسين وأهل بيته فجعلهم شذر مذر طوال عشرات السنين ، من دماء إخوانهم في عراق علي ّ والحسين . أما إيران ، فدولة ذات مصالح ، وما التشيع عندها إلا مجرد قميص عثمان وشعرة معاوية أحيانا ً . الأنظار ، إذن ، متـّجهة إلى شيعة العراق وعراق الشيعة ، فماذا هم فاعلون ؟
إن الثبات على المبدأ ، والتعامل المرن مع المتغيرات ، والقوى الدولية والإقليمية ، معا ً ، يستلزم جمع العقول إلى بعضها ، وعدم الاكتفاء بالمتردية والنطيحة من المستشارين الفاشلين . لذلك فيحسن بمن يملك أمر صنع القرار في بغداد ، أن يستفيد من ثمار كل العقول المخلصة ، مركـّزا على أهمية " ترميز " بغداد من جديد ، وفق مقتضيات الأمر الواقع ، الذي سالت دماء الطيبين وملأت الوديان لتحقيقه وبلوغه . وأن يجمع هذه العقول الواعية إلى بعضها للتوفر على أفضل وأقرب السبل إلى تكريس السلطة التاريخية البديلة ، في كل مكان وزاوية يمكنه بلوغهما ، في أي صقع ومصر وقصر ، على امتداد العالمين .
وليتذكر صنـّاع القرار في بغداد ، أن الهجوم هو أفضل وسائل الدفاع . وليس من اللازم أن يكون الهجوم عسكريا ً ، على طول الخط ّ وامتداد الزمان . فهناك السياسة ، والإعلام ، والمصطلح ، والستراتيجيا ، والفكر والعقيدة أيضا ً وأيضا . وحرام ٌ ، أن يمر ّ يوم ٌ ، أو بعض يوم ٍ ، دون أن تضيفوا فيه جديدا ً ، أو تهيئوا مقدمة ، لسلطة الحق ّ ، التاريخية الآتية .
https://telegram.me/buratha