( بقلم : كريم علي فياض )
قال تعالى في محكم كتابه الحكيم: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران:169).من البديهي القول: أن معركة كربلاء وما رافقها من بطولات وتضحيات ومآسٍ تقشعر لها الأبدان، هي التي بلورت إرادة الأمة وعزيمتها باتجاه رفض الظلم ومقاومة الظالمين، وبلورة الأحاسيس الخيرة في الإنسان. وإن سفر الحياة المفتوح، يعلمنا أن البطولات والتضحيات الإنسانية النبيلة، والتي تتجسد بكل معانيها ومستوياتها في كربلاء الحسين، هي عنوان الحضور والشهود، وهي صناعة للتاريخ وفق مقاييس القيم ومتطلبات المثل العليا.فالإمام الحسين(ع) بتضحياته، وفعله الاستشهادي في سبيل الله، والإصلاح في أمة المسلمين، قد كرس خطاً جهادياً في مسيرة الأمة، ضد كل مظاهر الزيغ والانحراف والخروج من ضوابط القيم ومتطلبات الاعتقاد الديني؛ لذلك ووفق هذا المنظور فإن الحسين(ع) ضرورة لكل العصور، لما يجسده من قيم ومبادئ ومثل إسلامية عليا. وعاشوراء الفداء الذي سطر مفرداته ثلة من المؤمنين المخلصين، هو الذي أمسك بدفة التاريخ، وتحكم بشكل أو بآخر في مسار العديد من ظواهر التاريخ الإسلامي بعد معركة الطف. فعاشوراء مناسبة تاريخية مستمرة، لاستيعاب دروس التضحية والفداء، وهذا الاستيعاب يتم وفق النظرة العميقة والمنهج الدقيق والقصد الشريف. ولا نعدو الصواب حين القول: أنه ليست هناك مناسبة تاريخية في الدائرة الإسلامية، استطاعت أن تثير الوعي والضمير، والفكر والوجدان، باتجاه الخير بكل صوره وأشكاله، مثل مناسبة عاشوراء، واستشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام؛ ففي هذه المناسبة التاريخية تنمو نوازع الخير، وتخبو نوازع الشر والطغيان. وكل ذلك بفعل الزخم العاطفي والتربوي الذي تحدثه هذه المناسبة العظيمة في نفوس أتباع مدرسة أهل البيت(ع)؛ لذلك فإن الإحتفاء بعاشوراء، والاستمرار في إحياء ذكرى الطف وأهوالها، ليس من أجل الانحباس في التاريخ، وإنما من أجل أن تأخذ القيم التي نهض من أجلها الإمام الحسين(ع)، طريقها في راهننا، وتتبوأ موقعها في حياتنا المعاصرة فـ(الإمام الحسين قضيتان.. قضية حق مضيّع، وقضية جسد مقطع.. أما قضية الجسد المقطع فانتهت، ودخل الحسين في جنات الله، وهو سيد الشهداء، وسيد شباب أهل الجنة، ولكن قضية الحق المضيع هي القضية الباقية. ومن هنا فكل محروم يبحث عن سيده، وكل مستضعف يبحث عن مأوى، وكل مطرود عن البلاد، وكل سجين، وكل معتقل وكل معذب، يبحث عن إمام وقدوة، ليستلهم منه الدروس، ولا يجد أفضل من الإمام الحسين معلما وهاديا ومرشدا. وهنا يكمن السر في حب الناس له، فهم يرون في الإمام مبادئهم وشخصيتهم وكرامتهم وعزتهم) فعاشوراء - وفق هذه الرؤية - ضرورة راهنة، لأنها مناسبة تاريخية تدفع المجتمع، بكل أطيافه وطبقاته وشرائحه، إلى التفاعل مع قيم الفداء والتضحية والنبل والوفاء.. وما أحوجنا اليوم إلى تلك القيم، التي تغرس في محيطنا الاجتماعي كل موجبات الانعتاق والتحرر من كل رواسب الجاهلية والتخلف.وعاشوراء طريقنا لتربية الأجيال وفق قيم الإسلام الخالدة، وسبيلنا إلى تذليل كل العقبات التي تحول دون التفاعل الاجتماعي المطلوب مع تلك القيم والمبادئ.وملحمة كربلاء تحولت إلى رمز وإنموذج للنهضة الأصيلة، التي جمعت في واقعها وعناصرها وعواملها كل شروط الإسلام، ودروس الرسالات السماوية، عبر التاريخ. (وكربلاء ليست مدرسة للبطولة الثورية فقط، وإنما هي أيضا مدرسة لبطولة الإنسان حينما يخرج من ذاته، من شح نفسه، من حدوده الضيقة، ليملأ الـدنيا شجاعة وبطولة.. كربلاء مدرسة الوفاء، مدرسة التبتل والضراع، مدرسة الحب والتضحية، مـدرسة العلم والتقوى، بالإضافة إلى أنها مـدرسة الجهاد والاستشهاد) وبالتالي فإن ملحمة كربلاء تحولت إلى مسيرة عبر التاريخ، واحتفاؤنا بهذه الذكرى الأليمة، وإحياؤنا للشعائر الحسينية، هو في جوهره تعظيم لكل إنسان مسلم يضحي في سبيل دينه وأمته، ولكل مجتمع يقف ضد كل أشكال الزيغ والزيف، وتكريم لكل دم أريق في سبيل الإصلاح والحرية والكرامة. (وبكاؤنا ليس وسيلة للعجز، وحزننا ليس أساسا وأداءً للإنطواء، وإنما هو أمل يفتح لنا الطريق واسعا، ويسد أمامنا أبواب الخزي والتخاذل والغرور والخداع الذاتي. وتجديدنا لذكرى الشهداء ليس طريقا للتعويض بهم عن شهادتنا وعن تضحياتنا.. إن بكاءنا تنديد بالظلم، وعويلنا وصراخنا إنما هو صراخ الضمير الحر والحي النابض في وجدان أمتنا، وصراخ النفس الأبية ضد العبودية والطغيان؛ وبالتالي هو وسيلتنا للتعبير عن سخطنا واعتراضنا المغلف بالحزن والأسى على الفساد المنتشر في أنحاء الأرض. وتكريمنا للشهداء معراجنا إلى ذلك المستوى الأسمى الذي بلغه هؤلاء الأبرار) إن مأساة كربلاء انتهت في الساعات الأولى لنهار اليوم الأول من عام(61هـ)، ولكن ابتدأت من ذلك التاريخ مسيرة كربلاء ومدرسة عاشوراء. إنها مسيرة الحسين في شجاعته وتضحيته، مسيرة أبي الفضل العباس في وفائه، مسيرة زينب الكبرى في شجاعتها ومحاربتها للزيف الأموي.. إنها مسيرة الإخلاص التي جسدها بأجلى صورها أنصار الأمام الحسين(ع)، الذين قال عنهم (ألا وأني لا أرى أصحاباً خيراً، ولا أبر و أوفى من أصحابي)..فعاشوراء نور عبر التاريخ، ينير لنا دروبنا، ويبلور تطلعاتنا، ونبراس مضيء لكل حياتنا. وبفعل التراكم التاريخي، تحولت منابر عاشوراء إلى وسائل للدعوة والتربية والهداية والإرشاد، وتعميق مفاهيم الدين الحنيف في المحيط الاجتماعي، وزيادة منسوب الوعي الديني والحياتي؛ فعاشوراء مدرسة متكاملة تغذي العقل والروح، وتشحذ العاطفة والوجدان، توصل التاريخ بالراهن، وتطهر الضمائر من رواسب الزيغ والتحريف والتبرير، وتبلور للإنسان الموقف والموقع المناسب من معارك الوجود. فحينما ينادي الإمام الحسين(ع) في أرض المعركة (والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد) أو قوله (إن الدعي ابن الدعي قد ركز بين إثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله.. ) وقوله (ألا وإن هؤلاء قد تركوا طاعة الرحمن، وأطاعوا الشيطان، واتخذوا مال الله دولا، وعباده خولا .. ) فإنه صلوات الله وسلامه عليه يسلم نهجا لكل المؤمنين والأحرار؛ بأن الحرية لا توهب أو تعطى، وإنما تؤخذ وتكتسب بالجهاد والتضحية والفداء؛ فلا حرية حقيقية بدون جهاد وتضحية. وعاشوراء الحسين(ع) تعمق هذه العلاقة السببية بين التضحية والحرية، بين الإصلاح والعمل والكسب الإنساني، بين الظاهر والباطن، بين اللسان والقلب، بين القول والفعل؛ فالقيم الإسلامية منظومة متكاملة، تتعاطى مع كل العناصر والدوائر. ومن عاشوراء نتعلم كيف ننتصر على ذواتنا، ونصل إلى مستوى الصديقين، وكيف نخرج من جمودنا وسباتنا من أجل الحق والحرية، وكيف نتحمل كل المكابدات والصعوبات في سبيل الأهداف المشروعة والمقدسة، وكيف نضحي بأعز ما نملك من أجل تحرير الآخرين من ربقة الذل والعبودية.. إنه مدرسة انتصار الدم على السيف، مدرسة الاستغفار والتوبة والتقرب إلى الله عزل وجل، عبر الصلاة والدعاء وتلاوة الذكر الحكيم وفعل الصالحات. ومن هنا تماهت قيم العزة والكرامة والحرية مع السبط الشهيد. فالمطلوب أن نكون حسينيين في عزتنا وكرامتنا، عاشوريين في حريتنا وعنفواننا، كربلائيين في تضحياتنا وإقدامنا.ولهذا فإن الحسين(ع) تحول من فرد إلى قضية ومشروع، ومن شخص إلى منهج يجيب على كل التساؤلات والاستفهامات التي تعترض طريق المصلحين عبر العصور؛ لهذا فإن (الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة). ونجد أن الإمام الحسين(ع) أعلن لأصحابه مساره، وإلى أين يتجه، فلم يضلل أحدا، ولم يمنّى أحدا بجاه أو منصب، وإنما أعلن الخروج على يزيد بن معاوية، لانحرافه واستهتاره بقيم الدين الحنيف.ففي مكة وقبيل مغادرتها باتجاه الكوفة، قام السبط خطيبا وقال: (الحمد لله وما شاء الله، ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على رسوله.. خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن مني أكراشا جوفا، وأجربة سغبا، ولا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس، تقر بهم عينه، وينجز بهم وعده.. ألا ومن كان باذلاً فينا مهجته، موطّنا على لقاء الله نفسه ، فليرحل معنا فإني راحل مصبحا إن شاء الله تعالى)..فالهجرة من مكة لم تكن هروبا، وإنما هي استجابة لدعوة المسلمين وتحمل للمسؤولية، وحملَُ للأمانة المقدسة؛ فالحسين(ع) باستشهاده، أيقظ ضمائر الناس، وعاشوراء لا زالت تمارس هذا الدور على مر العصور.فالاحتفاء بعاشوراء، والبكاء على أبي عبد الله وأنصاره الكرام، هو احتفاء بالضمير الحي وبالوعي الديني الذي يقف ضد كل أشكال الخروج من ربقة الدين، وهو احتفاء بذلك الإنسان البطل الذي تخلى عن كل شيء من أجل الدفاع عن دينه ومبادئه المقدسة؛ (ألا ترون إلى الحق لا يعمل به ، وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً).فمن عاشوراء يتم استلهام دروس التصدي والتحدي والاستقامة، ومن ذكراه العطرة ومدرسته الجهادية، تتم صناعة الأبطال والمضحين بكل ما يملكون في سبيل دينهم وأمتهم.فعاشوراء مدرسة للالتزام وتعميق عناصر الإيمان في النفس والسلوك، وهو منبر إعلامي عبر التاريخ لفضح الظالمين، وتعرية المتخاذلين والمستسلمين، وبلورة الموقف الرسالي من أحداث الواقع وتحدياته. وفي خضم التحديات الكبرى التي تواجه الأمة الإسلامية اليوم، نحن أحوج ما نكون إلى مدرسة عاشوراء وقيمها ومبادئها، لأنها هي التي تبلور لنا معاني العزة والكرامة؛ وذلك لأن الإنسان الذي ينتصر على ذاته، على ما فيها من تردد وازدواجية وعجز، ويتغلب على الرهبة من الحياة، يكتشف ما أودع الله عز وجل في كيانه من كنوز، من العقل والإرادة والضمير النابض .إن هذا الإنسان هو القادر على تغيير المعادلات، ومواجهة التحديات، واجتراح الإنتصارات والمكاسب. وهكذا تعلمنا مدرسة عاشوراء أننا بإمكاننا أن نتحول من التبرير إلى المسؤولية، ومن الجمود إلى الحركة، ومن الخضوع إلى المقاومة، ومن الانتصار السلبي إلى الفعل الإيجابي، ومن التواكل إلى التوكل، ومن (ليس بالإمكان أفضل مما كان) إلى اجتراح الفرادة والإبداع. وقد قال تبارك وتعالى (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha