( بقلم : طالب الوحيلي )
لم نكن عاصرنا مرحلة أربعينيات القرن العشرين ونضال شعبنا ضد الحكومات الاستبدادية في العهد الملكي وما تضمنه ذلك العهد من تأسيس للمعادلة الظالمة التي حكمت العراق سياسيا وطائفيا حتى سقوط آخر رموزها المقبور صدام ، لكن بعض شواهد ذلك الماضي مازالت بيننا حاضرة لحد الآن وما زال أهلنا يروون لنا ما علق بذاكرتهم من آثار هم شخوصها في بعض الأحيان ،فهم جزء من تأريخ حي لم تستطع الأقلام والكتب نقله بتلك الأحاسيس المفرطة بفطريتها وطيبتها ،كجزء من تراث روحي جميل سمته الأولى تلك المسحة المؤدلجة من الحزن .
أمهاتنا بما تحمله قسمات وجوههن من أخاديد وخرائط طرزها التعب والاضطهاد والحزن الموجع على ما مر بهن من ذكريات عن الشباب الذين قتلوا في جبهات القتال ،او على من ذهبوا الى المجهول ولم يرجعوا أبدا او من ساقهم زبانية الأنظمة المستبدة ليعدموا او لتزول نظارة شبابهم في غياهب السجون ،او ليعدموا او يقتلوا أمام عيونهن ..
إنهن يتذكرن كل مآسي العراق ،ويتذكر لماذا سمي جسر الشهداء بهذا الاسم مثلا ،وهذا هو بيت القصيد،فلعل التأريخ يروي ماذا جرى 1948 من القرن الماضي حين احتدمت في نفوس شباب العراق الحمية ضد الحكومة الملكية آنذاك ،وتعبأوا بين الفطرة الطيبة وبين نغمة الخطاب السياسي المحرض للنهوض والانعتاق ،فاندلعت مظاهرة سلمية حاشدة كان لها ان تعبر جسر (المأمون) لتجد رصاص الشرطة لها بالانتظار فراح يخترق الأجساد الطاهرة ويتساقط أولئك الشبان ،ليسيل دمهم كالغدران من قمة الجسر الى أسفله ،وتتحول المظاهرة الى مواكب تشييع ،ومن بين ترانيم المشيعون هذا المقطع (للنجف سيروا ياولدي للنجف ..ما نشف دمهم يفور وما نشف)..
لقد تذكرت هذا الحدث حين رأيت دماء طلبة المستنصرية وهي تسيل بل تفور من شدة الانفجاريات التي استهدفت جموع الطلبة بعد ان امضوا يومهم الدراسي وسط أحلامهم وآمالهم بمستقبل زاهر ،وقد اقبلوا على جامعتهم وهم يشعرون بان ذلك أعظم تحد لقوى الإرهاب التي أعلنت حربها ضد العلم والحياة والشباب والقيم الإنسانية ،كانوا بمستوى التحدي بعد ان قامت جيوش الإرهاب بمسمياتها وحواضنها بإصدار تهديداتها ضد الطلبة ونشرها بيانات تدعوهم فيها للتوقف عن الدراسة ،فيما برر ذلك بعض النواب المعروفين بمغازلتهم لتلك الجيوش بمبررات سخيفة ،وكان على وزارة التعليم العالي ان تكون بمستوى تعهداتها بتوفير الأمن لمؤسساتها العلمية او إعلان عجزها عن ذلك والتنحي ان كانت غير قادرة حتى ولو كان الامر يتعارض مع مصالح الكتلة التي ينتسب اليها السيد الوزير !!أكثر من ستين شابا وشابة يقتلون في طرفة عين وتتحول تلك الأجساد الغضة وتلك الشمائل الى مجرد أشلاء ودماء ويصاب أكثر من مائة منهم بجراح يعجز الأطباء عن إسعافها ،وسط أجواء من الاستعداد للخطة الإستراتيجية الأمنية او الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في حل مشكلة الملف الأمني ،ووسط مزايدات لشيوخ الإرهاب الذين تمادوا كثيرا في تحريضهم على قتل أبناء هذا الوطن وهم يدعون اليوم علانية الى الحرب الأهلية ومراهنتهم على الفوز فيها كما يرى ذلك الفيضي وأمثاله من هيئة علماء السنة ،وبدل ان تبحث القوى المشاركة في الحكومة عن ما يعزز مواقعها في قلوب المواطنين المبتلين بالشر الطائفي ،ليكون لدعاوى المصالحة الوطنية معنى حقيقي ،راح بعضهم يتباكى على صدام وبرزان والبندر،كبعض المسئولين في الحكومة!!! .
سلسلة الكوارث التي شهدتها مناطق بغداد في المستنصرية وفضوة عرب ومدينة الصدر وحي الجامعة وساحة الكهرمانة مساء يوم 16/1/2007 وذهب ضحيتها أكثر من مائة شهيد وأضعاف ذلك من الجرحى ،ان كانت تعني بانها رسالة الى الإستراتيجية الجديدة بان قوى الإرهاب مستعدة للتحدي ،فإنها تعني من جهة أخرى ان هذه القوى التي تتكالب اليوم هي ذاتها التي قتلت شباب جسر الشهداء عام 1948 ،كما تعني اكثر من سؤال للحكومة عن قدرتها في مراجعة كل خياراتها ومنها تطبيق قانون مكافحة الإرهاب وفي استثمار قانون الطوارئ او إعلان الأحكام العرفية الحقيقية وهو من حقها مادامت تسعى للحفاظ على أرواح العراقيين ، فهل سارت مواكب المشيعين بذاك الهتاف ؟ومن سيدان على هذه الجرائم؟و...لنكون او لا نكون ..فذلك هو السؤال...
https://telegram.me/buratha