( بقلم : د. حامد العطية )
تساءلت مع نفسي: هل سيفاجئنا ويعتذر؟ وقفزت إلى ذاكرتي طقوس وداع الموتى في دمشق، حيث قضيت ثمان سنوات في المنفى الاختياري بين الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، اعتاد أهل الشام على تشييع موتاهم في سيارة مستأجرة خاصة بذلك، يضعون ميتهم في نعش داخلها، ويدورون به في منطقة سكناه، مرددين عبر مكبر للصوت وعن لسان حال الميت طلباً اخيراً موجهاً لجيرانه: سامحوني يا جيران!لكنه لم يعتذر، ولم يطلب المغفرة، بل تصرف بوقاحته المعهودة، وراح يتحدث عن "المرجلة"، فأي مرجلة أو شجاعة يقصد هذا الرجل؟ من المؤكد أن مفهوم الشجاعة موجود في كل الثقافات القديمة والحديثة، وقد يختلف في مكوناته وممارساته من مجتمع لآخر، وفي القدم احتكمت الأمم والجماعات للقوة في علاقاتها وحسم نزاعاتها، وكانت الغلبة والبقاء للأقوى من دون أي اعتبار للحق والعدالة، تصديقاً لمبدأ داروين، وتسلط الأقوياء على المجتمعات وحكموا الناس، واضعين أنفسهم فوق القوانين –إن وجدت، مستأثرين بالقوة ووسائلها من سلطة وأسلحة وممتلكات، ومتحكمين بالضعفاء ومقدراتهم بالمطلق، لذا حفل موروث البشرية الثقافي والفكري بتمجيد الشجاعة واطراء الشجعان، وبصورة عام اقترن مفهوم الشجاعة لدى الأقدمين بالقوة البدنية والجرأة والإقدام، ومحك الشجاعة القتال في الحروب ومنازلة الخصوم، وبقدر ما كانت الشجاعة قيمة عليا وصفة محمودة فقد كان الجبن وصمة عار على الرجل، فإذا انتشر خبر جبنه بين الناس عاملوه باحتقار شديد، وتداول الناس روايات عن شجاعة محاربيهم، وتفاخروا ببطولاتهم، وكافأ الحكام الشجعان من قادة جيوشهم، فأنعموا عليهم بالرتب والألقاب والمنح السخية من الأموال والممتلكات، ففي المجتمع العربي الجاهلي يمنح المسترق عنترة حريته ويلحقه سيده باسمه ونسبه بفضل شجاعته واستبساله في غزوات وحروب قبيلته، وفي أوروبا العصور القديمة والوسطى أنعم الملوك والأباطرة على قادتهم المنتصرين بالاقطاعيات الكبيرة ليصبحوا طبقة من النبلاء، وبنفس الطريقة اكتسب محاربو الساموراي مكانة اجتماعية راقية في اليابان.
يتميز مفهوم الشجاعة في الإسلام بارتباطه الجذري والوثيق بالقيم والأخلاق الإسلامية، فلم تعد الشجاعة قيمة عليا بحد ذاتها، ولا تقاس الشجاعة في سوح القتال فحسب، والشجاعة مراتب، أعلاها بذل كل غال ونفيس في سبيل العقيدة والقيم السامية، بما في ذلك النفس العزيزة، وقد ينالها الفرد بالصبر على الظلم والقهر، كما يحرزها المقاتل في معارك الدفاع عن العقيدة، وبالتالي تكاد الشجاعة أن تكون صفة لازمة في المؤمن بعقيدته، لأن عليه واجب الدفاع عنها وعن القيم التي تدعو إليها، ومن يتقاعس عن ذلك من دون عذر مقبول يعتبر من الخوالف، وقد يعد من المنافقين، ومن هذا المنظور يعتبر الهروب من وجه الأعداء أثناء القتال جريرة عظيمة لا يغفرها إلا الله، وبالنتيجة تشترط الشجاعة لاكتمال الإيمان، وما ينطبق على الفرد يسري بقوة أكبر على القادة، وإلا فكيف يستطيع جبان أو متخاذل قيادة جماعة من المؤمنين الشجعان؟ واستناداً إلى ذلك يشترط أتباع مذهب آل البيت في الإمام الشجاعة، فلا يجوزون انعقاد إمامة الجبان.
يمكن تعريف الشجاعة في مفهومها الإسلامي والإنساني المتطور بأنها التضحية والإيثار في تحقيق مصلحة الفرد أو أفراد أو جماعة، وفي نصرة الحق والعدل والفضيلة والقيم الإنسانية السامية، والتي قد تصل إلى درجة التضحية بالنفس، ولتقصي مدى اتصاف صدام حسين بالشجاعة لا بد من تطبيق هذا التعريف على فكره وسلوكه، ويستدل من التعريف وجود العناصر التالية ضمن مفهوم الشجاعة:
1. الاستعداد للتضحية بالنفس في سبيل العقيدة والمباديء.
2. نصرة الحق والعدل بتجرد من اعتبارات التعصب للأهل والعشيرة والطائفة وغيرها من الانتماءات.
3. دفع الظلم عن المظلومين والتصدي للظالمين بالقول والفعل.
4. الدفاع عن الفضائل والأخلاق السامية.
5. الانتصار على الأهواء المنحرفة بما في ذلك ظلم الغير أو ما يعرف بجهاد النفس.
فهل كانت تتوفر في فكر وممارسات صدام حسين عناصر الشجاعة هذه؟
تظهر في فكروسلوك صدام حسين كافة أعراض عقدة نقص مستفحلة، دفعته إلى الهوس بإثبات "مرجلته" أو ما يعرف بـ machismo – والصلة بين المرجلة والرجولة غير خافية ـ وقد تجلت هذه العقدة في عدائية مفرطة تجاه أقرانه أثناء طفولته bullying، وفي انتماءه لعصابات الأشقياء في شبابهgang membership، وغالباً ما يحترف أمثاله الإجرام أو القوادة، ولكن تفرده بالسلطة أطلق العنان لعداءه المرضي للمجتمع وهوسه بالسيطرة ليقترف أشنع الجرائم من شن الحروب والقتل الجماعي والتعذيب والاغتصاب.
لم يكن صدام حسين شجاعاً، بل كان جباناً بكل معاني الكلمة، وتجسد جبنه في تسلطه المطلق وأنانيته المفرطة ونرجسيته وعدوانيته وغدره ودناءة وخسة أساليبه، ومثله مثل كل الطغاة كان صدام أصل قبيح وصورة مزوقة، والأصل جبان رعديد، ظهر على حقيقته آبان الحرب العدوانية على إيران الإسلامية، وبالتحديد أثناء معركة تحرير ديزفول التي مني الجيش العراقي فيها بخسائر فادحة، وكاد صدام أن يهلك فيها عندما قصفت طائرة إيرانية موكبه في الخطوط الخلفية ، ويصف شاهد عيان اجهاش صدام بالبكاء أثناء هروبه مع مرافقيه، ويبدو أن الحالة العصبية التي انتابته بعد احتكاكه مع الموت لازمته حيناً من الزمن فقد رأه العراقيون بعد ذلك ودموعه تتساقط على وجنتيه في أكثر من مناسبة متلفزة، وادعى أتباعه يومها بأنها دموع الحزن على قتلى العراقيين في المعركة!
إن النتيجة الحتمية الوحيدة التي يمكن للباحث الموضوعي التوصل إليها هي افتقاد صدام حسين، فكراً وتطبيقاً، لكافة مقومات الشجاعة، ولو كان يؤمن بعقيدته البعثية المنحرفة لما هرب ولاذ بحفرة في الأرض في الوقت الذي انهزمت واستسلمت قواته وفر قادتها، فقد توقع أتباعه قبل مناوئيه أن يشارك في الدفاع عن حكمه حتى النفس الآخير او آخر رصاصة في سلاحه، مثلما فعل زعيم عراقي آخر وهو عبد الكريم قاسم غداة انقلاب البعثيين في 1963م، وهنالك من توقع أو تمنى أن ينتحر صدام حسين قبل رؤية المحتلين يطيحون بحكمه، وكما هي عادة القواد اليابانيين منذ القدم وحتى الحرب العالمية الثانية، ولكنه آثر السلامة والحياة الذليلة في جحر.
أثبت صدام حسين جبنه في الحرب والسلم، والسلم هو الحالة الطبيعية للمجتمع البشري، وتتمثل الشجاعة في زمن السلم بالثبات على المبدأ، والدفاع عن المظلوم ومعاقبة الظالم (ولنتذكر هنا عفو صدام عن إبنه القاتل)، والحلم عند الغضب، والعفو عند المقدرة، والتواضع للضعفاء، ولم نرى في سلوك صدام ذرة من هذه الخصائل.
ومن المؤكد أن صدام حسين لم ينتصر أبداً للحق والعدل، بل على النقيض من ذلك، ففي عهده ضاعت الحقوق واختفى العدل، فلم يحترم صدام حسين مباديء العدل والحقوق في تعامله مع شعب العراق وجيرانه، وتجلت عدوانيته ومجافاته للحقوق في أبشع صورها في حربيه على إيران والكويت وفي تنكيله بالعزل من معارضيه، وممارسته للعقاب الجماعي المنافي للعدل، وقتله النساء والأطفال، وتعذيبه السجناء.
يأبى القائد الشجاع على نفسه استعمال الوسائل والأساليب الدنيئة وغير الأخلاقية في بلوغ أهدافه، ولو كانت هذه الأهداف مشروعة، أما الحاكم الجبان فلا يتورع عن اتباع الوسائل الميكيافلية في سبيل تحقيق أهدافه، التي عادة ما تكون أنانية، وأهداف صدام حسين متمحورة حول ذاته المتورمة بهوس العظمة، ووسائله إجرامية ووضيعة وغير مقيدة بمبدأ أو أخلاق، وكان أسوء نموذج لأعوانه واتباعه الضالين، الذين كان أهون رذائلهم الوشاية وأسوءها القتل والتعذيب والتنكيل، وبالنتيجة كان صدام حسين ونظامه أعداء ألداء للفضائل والأخلاق السامية.
صدام حسين عبد لشهواته وأهواءه، وأوضح دليل على ذلك قصوره القبيحة التي تجاوز عددها الخمسين، وتمثل مجونه وبذخه في حفلات عيد ميلاده، التي أقامها في الوقت الذي كان يعاني العراقيون من قلة الغذاء والدواء بسبب الحصار الاقتصادي، وما أشبهه بالامبراطور الروماني المعتوه نيرو الذي احرق روما ثم وقف متفرجاً يعزف على قيثارة، وله أسوة سيئة في الملكة الفرنسية ماري أنطوانيت التي كان قولها لدى سماعها أن فقراء الفرنسيين تظاهروا مطالبين بالخبز: لماذا لا يأكلون الكعك؟ فانتفض الفرنسيون عليها وعلى زوجها الملك وقطعوا رأسيهما بالمقصلة.
كان حكم صدام عنصرياً في تحقيره للأثنيات المتنوعة في العراق، وطائفياً في اضطهاده للشيعة، ومناطقياً في تحيزه لأبناء منطقته الذين فضلهم على غيرهم في الوظائف والمصالح والعطاء، وعشائرياً في تعصبه لأفراد قبيلته، كما خص أخوانه وأبناءه وأقاربه بالمناصب القيادية المدنية والعسكرية والأمنية، واطلق أيديهم في التصرف بالعراق والعراقيين، ولو كان صدام حسين شجاعاً لما اختبأ وراء طائفته وأبناء منطقته وعشيرته وأقاربه، لأن القائد الشجاع يستقوي بعقيدته وقيمه وشعبه بأجمعه.
https://telegram.me/buratha