(بقلم د. وليد سعيد البياتي )
الثوابت والمتغيرات:لا شك ان حركة التاريخ تحتكم في تحولاتها الى العديد من الثوابت والمتغيرات التي ترسم الاتجاهات والمسارات التي يسلكه التاريخ في حركته المستمرة، فالزمن عامل متغير في حين ان العقيدة كيان ثابت يتبنى موقفا ايجابيا من مسالة سعادة الانسان وتحقيق غاياته وفق المعايير السماوية، ومن هنا جائت الشرائع السماوية وهي تهدف لتحقيق هذه السعادة ولكن وفق الشرط الالهي، في حين إن الرغبات والشهوات تتغير والانسان في حركته عبر الزمن في صراع دائم بين تحقيق رغباته الذاتية، وبين الامل في غاياته التي كثيرا ما ينحرف عنها بسبب الشهوات الدنيوية، وقد وجد الفلاسفة وقبلهم الانبياء والرسل عليهم السلام ان البقاء على الثوابت عملية في غاية الصعوبة تكتنفها العديد من الاشكالات الدنيوية، ولهذا كان المخلصون والمؤمنون على الدوام الاقل عددا، والاكثر تحملا ، ومن هنا يمكن فهم حديث الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله: ( يأتي زمان على امتي يكون فيه الثابت على دينه كالقابض على جمرة من نار، فإن افلتها افلت دينه وان امسكها احرقته). وقول اميرالمؤمنين علي عليه السلام: ( لاتستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه) فالثبات عملية تتفاعل فيها عناصر: الايمان، العقل و النفس بشكل اساسي وهي تتجذر عند قيم العقيدة، كما ان قدرة الانسان على الخروج من مستنقع الشهوات اليومية والارتقاء بالذات حالة تتعلق في الاغلب بالعناصر السابقة وترسخ قيم الثبات، غير ان الانسان كمخلوق مركب من الشهوة والعقل غالبا ما ينحاز الى شهواته رغبة في تحقيق غايات آنية، ورغبات دنيوية، وإن كانت تبنى على أسس متهالكة، او قيم منحطة، وقد جائت الرسالات السماوية لتؤكد اهمية الثبات على القيم الرسالية باعتبار ان الثبات يؤشر الالتزام الديني من جانب كما يؤشر القدرة على البناء المستقبلي، فالمشروع الالهي في خلافة الانسان على الارض يرتكز الى الثوابت التي نادى بها كل الانبياء والرسل عليهم السلام، والتي جسدها الائمة الاطهار باعتبارهم مصداق واقعي للثبات على الخط الرسالي، بل انهم الهداة الى هذا الخط. ومن جانب آخر فان التحولات اليومية عبر حركة التاريخ تكشف عن الكثير من المتغيرات التي يجب على الانسان التعامل معها، فاحد هذه المتغيرات آثار عامل الزمن على الانسان نفسه في تحولاته من الطفولة الى الشيخوخة والهرم، عبر مراحل الصبى والفتوة والشباب، وذلك الكم اللامتناهي من النظريات و والمعتقدات اللادينية من نتاج الفكر الوضعي، فالانسان الذي يحاول تغليب المتغيرات على الثوابت يعيش في حالة صراع دائم، ففي الوقت التي يكون عمر المتغيرات قصيرا ونتائجها محلية، وآنية وحتى وان شهدت توسعا افقيا في الانتشار، الا انها بالتأكيد تفتقر الى العمق المنهجي، كما تفتقد الى العمق التاريخي، نجد ان الثوابت تمتلك خاصية الاستمرار والبقاء كما انها تتوافق ومناهج العقل اضافة الى ما تمثله من إرث تاريخي يعود الى بدايات خلق الانسان وظهور الرسالات السماوية.
لقد سقنا هذه المقدمة ليتم من خلال مفاهيمها تفسير حركة نهاية التاريخ باتجاه مساراتها النهائية، فالدراسات اللاهوتية للقرنين الاخيرين للكنيسة الكاثوليكية تؤطر عناصر نهاية التاريخ وفق المفاهيم الكنسية ( حول مسالة المخلص وقرب ظهوره)، ونفس شيء يقرره اتباع الكنائس الاخرى مثل الانجليكانية ( الكنيسة الانكليزية)، وقبل ايام قليلة اطلعت على تقرير نشرته مجلة ( برج المراقبة) وهي المجلة الخاصة باتباع شهود يهوه يشير الى نفس الموضوع، بالطبع كل هذه الكنائس المسيحية تنقل الموقف من وجهة نظرها الخاصة والتي قد تتفق بعض جوانبها مع الموقف الاسلامي بظهور المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف، وظهور السيد المسيح عليه السلام، غير ان الموقف الاسلامي وخاصة في منهج أهل البيت الاطهار عليهم السلام يضع نهاية التاريخ باعتبارها تفسيرا حقيقيا وعقلانيا لقيم الرسالات السماوية منذ عهد آدم عليه السلام وحتى لحظة ظهور الامام المنتظر عجل الله فرجه، بل وحتى ان يرث الله الارض بما عليها، وهذا التفسير يحقق ثوابت التاريخ الرسالي ولا يهمل التفاعل مع المتغيرات من منطلق المفاهيم والقيم الرسالية، فمن الثوابت الاكثر رسوخا في حركة التاريخ هو ذلك التباين الواضح بين الواقع الفاسد والتطلع المستمر نحو التغيير والاصلاح، فالتغيير قد يأخذ شكل ثورة تهدف الى تحقيق الانسانية في تحقيق متطلبات سعادتها وفق الاطر الالهية بعد ان اثبت التاريخ فشل الحركات والانظمة الوضعية في الاصلاح. لقد كانت ثورة الامام الحسين عليه السلام الاصلاحية تتوخى وضع الانسانية على مساراتها الحقيقية، غير ان المجتمعات لم تتمكن من تطوير العقل الجمعي ليرقى الى مستويات التعاطي الفعال مع هذه الثورة، ومن هنا استمرت الحركة الرسالية باتجاهها الامامي لتعيد رسم خارطة العقل، ولتهيء الانسان باتجاه القادم، باعتبار ان عملية التحول، عملية مستقبلية لايمكن لها ان تتم الا في ظروف تتجاوز الآني والمادي، لتشكل انعطافا جوهريا في الادراك، ولتفسر مفاهيم العلاقة بين الانسان وحركة التاريخ باعتبار ان الاخير احد اهم عناصر التحول التاريخي.
أنهيار منظومة الظلم:
لا يمكن انكار ان منظومة الظلم تتجذر عند بدايات العصر الانساني، ففي الوقت الذي كان فيه المجتمع البشري لايتجاوز عدد اصابع اليد نجد ان الظلم يقدم لنا اول تجاربة في القهر فيقتل قابيل اخاه هابيل، غي ران هذا الظهور المبكر للظلم لايؤكد حضوره كعنصر رئيسي في حركة التاريخ، كما انه لا يمثل الاتجاه المرجو من وجود الانسان على الارض، فلا يمكن اعتبار الظلم احد عناصر صناعة الحياة، بل اننا يمكن لنا تفسير كعنصر دخيل مع الاخذ بنظر الاعتبار بقاءه المستمر عبر تحولات الانسانية على درب التطور والارتقاء، من جانب آخر نجد ان الظلم يشكل احد اهم العناصر التي وقفت ضد الرسالات السماوية، و الحركات الاصلاحية، بل انه اخذ موقفا شديدا ضد المنهج المهدوي (من الهدى) الذي شكل اهم عناصر فعل الائمة الاطهار عليهم السلام باعتبارهم هداة للبشرية، ومفسرين ومرسخين للقيم الالهية في عصر مابعد النبوة الخاتم. لقد تمكنت منظومة الظلم من تقديم نماذج تبنت على الدوام قيما منحطة حاولت من خلالها اخضاع العقل الجمعي، والانحراف به عن المسار الخط الرسالي، فظهرت شخصيات منحرفة من امثال ابي سفيان ومعاوية ويزيد، ثم الحجاج بن يوسف، وقبلهم كثير وبعدهم اكثر شكلوا ارقاما تافهة في منظومة الظلم، كلهم مثل دورا عبر حركة التاريخ، لقد استطاع العديد من المصلحين ايقاف عمل هذه المنظومة لفترة من الزمن، او على الاقل شل حركتها، لكن عناصر استمرار هذه المنظومة بقيت حية هنا وهناك، ومن اهم هذه العناصر هو استمرار ضياع العقل الجمعي من جهة، ورفضه للتفسير الالهي لحركة التاريخ من جهة اخرى، ولكن حيث ان التاريخ ككل شيء يسير نهايته، فان عناصر منظمة الظلم قد بدأت بالانهيار والتآكلن ولهذه فان المنظومة وهي تعيشمراحلها الاخير ستتصرف بشكل عنيف لتثبت انها قادرة على البقاء، في الوقت فإن كل العناصر المؤدية الى تدمير منظومة الظلم قد بدأت تستعيد عافيتها، والانسانية تسير بخطى حثيثة للقضاء على منظومة الظلم التي لبست ومنذ قرنين لباس ديني تكفيري متطرف تمثل بالحركة الوهابية، او تبنت موقفا قوميا عدائيا تجاه الاخر، لكن حركة التاريخ تابى الا ان تكشف لنا كيف تم دك الاسفين في جسد هذه المنظومة المنخور، فبدأ السقوط المدوي، فكل البلدان التي تبنت عناصر منظومة الظلم وفعلت اتجاهاتها تعيش الان حالة من الانهيار وما سقوط الطغاة والجبابرة المتاخرين الا اكبر شاهد على واقعية التغيير القادم، فصدام التكريتي كان احد مفاتيح منظومة الظلم في التاريخ المعاصر ومشاهد تدليه من على الحبل لاكبر برهان على قرب انهيار هذه المنظومة، وبالطبع فان الباكين والنائحين عليه هم من يبكي مابقي من ايام هذه المنظومة التي لم تقدم للانسانية الا الدمار والاستهانة بالعقل، فالصخرة قد انطلقت من على قمة الجبل ولن يكون مصيرها إلا الهاوية.
المملكة المتحدة – لندن
https://telegram.me/buratha