( بقلم : عبد الرزاق السويراوي )
على امتداد المساحة الواقعة ما بين سدة باب الشيخ وقناة الجيش التي انشأها الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم , تقع منطقة ( العاصمة و الميزرة ) ’ وكانت معظم بيوتها , إنْ لم تكن جميعها , مبنيّة من الطين, وقد إشتهر فيها إبّان نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات , عدد من هؤلاء الملالي الذين قدّموا في ذلك الوقت , خدمة جليلة لصغار ابناء المنطقتين المذكورتين , وكان من أشهر هؤلاء, ملاّ ( موسى ) والملاّ ( سيد سعد ) , وكانت طريقة التدريس لدى هؤلاء الملالي تكاد تكون متشابهة , بإستثناء بعض الامور الطفيفة , وكان معظم الآباء في ذلك الوقت , يحبّذون إرسال اولادهم الى الملا , وكان من بين هؤلاء الملالي في منطقة ( الميزرة ), هو المرحوم الملا (سيّد سعد) الياسري , وكانت طريقته في التدريس , أنّه يركّز في بداية الأمر , على تعليم الدارس , حروف الهجاء , قراءة وكتابة , في كتاب بسيط , يُسمّى جزء ( الالفيّات ) وبعد ان يتدرج الدارس , بحيث يتمكن من قراءة بعض الحروف أو الكلمات , وكتابتها , فانّ الملاّ ( سعد) ينتقل به الى مرحلة اخرى تبتدىء بجزء آخر يسمى (جزء عم) وهو الجزء الذي يبتدأ من سورة عمّ يتسا ءلون عن النبأ العظيم, وهذه المرحلة , أصعب بكثير من مرحلة الألفيات التي سبقتها , لأنها تتضمن قراءة فعلية للقرآن الكريم, لذا فانّ الكثير من هؤلاء الدارسين , وخصوصا ذوي القدرات الذهنية المتدنية والذين لا يستوعبون بالشكل الجيد, اما ان يتركوا الدرس نهائياً لدى الملاّ , أو ان البعض منهم يرسلهم آباؤهم الى مدرسة ( النجاح ) الإبتدائية ,التي كانت تقع قرب المكان الحالي لنصب الشهيد , وبعد إكمال الدارس لجزأ عمّ , وبعدما يلمس الملاّ تطورا في قدرات الدارس , من حيث القراءة والكتابة, فأنه ينتقل به الى مرحلة اخرى , هي (جزء تبارك) والذي يبتدأ من سورة الملك ,( تبارك الذي بيده الملك) وبعدها ينتقل الدارس الى مرحلة الجزء الذي يليه والذي يبتدأ من سورة (الذاريات) ,
وبعد ذلك تأتي المرحلة الاخيرة , حيث تبدأ قراءة الدارس من القرآن مباشرة, كلّ ذلك يتم بالطبع , بإشراف ومتابعة مباشرة من الملاّ نفسه , وحينما يختم الدارس القرآن ولأول مرة, فأن هذه المرحلة تعتبر هي النهائية , وأنّها بمثابة مرحلة التخرج , ومن الطريف في هذا الأمر انّ الدارس حينما يتمم الختمة الأولى على يد الملاّ , فان هذه العملية تتم وفق طقس خاص حيث يطلب الملاّ من أهل الدارس , مبلغا من المال , بعنوان هدية يجلب الملا بثمنها , نسخة من القرآن الكريم , و ولكن قبل ان يسلّمها الملا للدارس الذي يكون في خلال هذه الفترة قد تمكن من ملكة القراءة فضلا عن الكتابة ويكون ايضا قد انهى اول ختمة للقرآن , فأنّه يُؤْتى بصينية بحجم معين , فتوضع نسخة القران التي جلبها الملاّ للدارس , في وسط الصينية , بعد ان تكون قد لُفّتْ بقطعة من القماش الاخضر , فيخرج الدارس من بيت الملا وعلى رأسه الصينية التي يتوسطها القرآن الكريم , وهو محاط بأصحابه الدارسين , وأيضا بصحبة الملاّ أوباشراف ( الخلفة ) الذي ينوب عادة عن الملاّ , وهو الشخص الذي سبق وان أجتاز كلّ هذه المراحل , من هنا فانّ كلمة خلفة متأتّية من الخلف أي الذي يخلف الملا , ثم تبدأ عملية طواف للدارس وزملاءه في الأزقة التي تكون في الغالب ملتوية وليست على إستقامة واحدة , ويصاحب هذا الطواف , عملية قراءة لسورة ( الضحى ) التي يقوم بتلاوتها , (الخلفة ) , حيث يردّد الأخير آية واحدة من سورة الضحى ويتوقف قليلا ليردّد خلفه الدارسون كلمة : هاها , والشمس وضحاها , هاها , والقمر إذا تلاها , هاها , وتستمر القراءة والتجوال في الإزقة على الشكل المذكور, ثم تعاد السورة من جديد إذا ما إنتهت , وهم يطوفون في الازقة ومن امام البيوت , حيث يقوم البعض من الرجال أو النساء , بوضع بعض القطع النقدية المعدنية التي كان التعامل بها سائدا في ذلك الوقت , وهكذا الى أن يعود الجميع الى بيت الملا , الذي يقوم بأخذ المبلغ المتجمع في الصينية ,
ثم يستخرج الملا بعض هذا المبلغ ويعطيه الى أهل الدارس لشراء دجاجة أو ما شابه ذلك لتذبح وتؤكل للتبرك والثواب ... وفاتني ان أذكر أنّ الملاّ ( سيد سعد) , كان يقوم بإعطاء طلابه , الى جانب تلاوة القرآن , بعض القصائد الحسينية " اللطميات " , كتابة وترديدًا, ومن الطريف أيضا , أن الدارسين كانوا إذا ما إسْتشعروا بمشارفة وقت الإنصراف الى إهليهم , فانهم يرددون احيانا على مسمع الملا العبارات الآتية : ( يا ملاّتي حلْنه حلْنه , حلّتْ مشاكلنه كلنه ــ أي كلّنا ــ عندها يأذن لهم الملاّ بالإنصراف الى اهليهم فينصرفوا .
https://telegram.me/buratha