( بقلم : د. حامد العطية )
أصل تسمية العراق بأرض السواد معروف للجميع، وكانت هذه التسمية دارجة أيام أبي الفرج الأصفهاني، صاحب كتابي الأغاني، الذي كشف في مجلداته الحقائق المخجلة والمخزية عن سلوك خلفاء الأمويين والعباسيين والانحرافات العقائدية والسلوكية المتفشية في المجتمعات العربية الإسلامية في تلك الحقبة من التاريخ، والتي يرفض المتعصبون القوميون والطائفيون صحة رواياتها، رامين صاحبها بالتشيع أحياناً وبالشعوبية غالباً، وفي تحفته الثانية " مقامات الهمذاني" تسرد إحدى القصص وقائع إحتيال عياري بغداد على سوادي، أي رجل من أهل سواد العراق، والمقصود بها سكان وسطه وجنوبه، والعيارون عصابات شوارع من أصول إثنية مختلطة، ظهرت في العهد العباسي، اعتاشت على السرقة والاحتيال، استعان بهم الأمين في حربه ضد أخيه المأمون، وبلغ بهم الفسوق والتهتك انحطاطاًً غير مسبوق حيث يروى بأن الرجل والمراة منهم كانا يلتقيان في الطريق وفي وضح النهار فيلتثمان غير عابئين بالمارة من حولهما، وقد تسبب لي شمول منهج درس اللغة العربية في كلية بغداد في الستينات على تدريس هذه المقامة حرجاً شديداً لأن اسم والدي سوادي، وتندر علي بعض زملائي الطلاب من أهل بغداد ذوي الأسماء التركية والرومية بسؤالي إن كان السوادي المذكور في مقام الهمذاني هو والدي رحمه الله؟ في حين نأى بعض زملائي من أبناء الجنوب عني وكأنني مصاب بالطاعون وتبرأوا من "سوادهم" كما لو كان الكفر الصراح، ولم أدرك في حينها بأنهم كانوا يشتموني بأحسن وأنبل الأسماء التي تطلق على عراقي وهي: سوادي ومعيدي وشروكي.منذ ذلك الزمن تيقنت بأن بعض سكنة بغداد المعاصرين هم عيارون أيضاً، ولا أقول سكان بغداد لأنهم غرباء وطارئون على بغداد والعراق عامة، والمعروف أن أباءهم وأجدادهم تخاطبوا بالتركية تعبيراً عن تمسكهم واعتزازهم بأصلهم العنصري والثقافي، وتفاخروا بذلك علناً، ومنذ العصر العباسي الذي شهد تدفق الأتراك والمغول والتتر وغيرهم من الأقوام الرحل على العراق واستيطان الكثير منهم في شماله وغربه وتكيفهم مع البيئة الإجتماعية والثقافية لأهل العراق الأصليين، تعامل هؤلاء العيارون الطارئون مع العراقيين من أهل السواد بتعال وتكبر واحتقار، وتمكن العيارون الذين امتهنوا اللصوصية والاحتيال في آخر المطاف من سرقة العراق برمته وإخضاع سكانه لسيطرتهم بعد استعانة الحكام العباسيين بهم كجند مرتزقة، واستمروا على هذا الحال أكثر من عشر قرون متواصلة حتى سقوط آخر الحكام العيارين صدام حسين، الذي ينتمي لعشيرة البيكات، والعجب العجاب أن تجد قبيلة تدعي العروبة وأسمها غير عربي مثل البيكات أو القراغول أو الكرد، لأن أسم القبيلة دليل على أصلها، كما يفصح اسم المرء عن بيئته الثقافية، ولن يرضى سوادي عربي بتسمية أبناءه بأسماء أجنبية، فلم أسمع في حياتي كلها بأن أحد الجنوبيين أسمه حكمت أو شوكت أو بهجت، ولكنها أسماء شائعة بين العيارين لأنهم غير منتمين لثقافة أهل السواد الأصيلة.
أثناء فترة سيطرة العيارين على العراق أبعدوا أهل السواد الأصليين من سكان الوسط والجنوب عن مراكز الحكم والسلطة، وحرموهم من المناصب الإدارية، وحالوا بينهم وبين الوظائف البسيطة، ويروي الشاعر الجواهري في مذكراته التي نشرت قبل وفاته بسنين قلائل تجربته المريرة في الحصول على وظيفية تعليمية، ويلقي باللائمة في حرمانه من تلك الوظيفة على ساطع الحصري، ويجزم بأن السبب الوحيد كونه شيعياً من أهل السواد، ولم تفلح محاولات الوزير الشيعي الوحيد في وزارة تلك الفترة من الحكم الملكي، وهو الأستاذ عبد المهدي، والد نائب رئيس الجمهورية الحالي الدكتور عادل عبد المهدي، في ثني الحصري عن رفع الحظر الذي فرضه على توظيف أهل السواد في الوظائف التعليمية، ويشهد الجواهري بأن هذا الحصري، المعروف بين أوساط العيارين القوميين، بأب القومية العربية، لم يكن يتقن اللغة العربية، وكانت التركية لغته المفضلة، حدث ذلك في عهد الملك الأجنبي فيصل الأول ( وجدير بالذكر أن هذه العائلة "الهاشمية" متزاوجة مع الأتراك والألبان والشركس بحيث لم يبق من دمائها العربية ولا حتى الرائحة) الذي فرضه المحتلون البريطانيون على شعب أهل السواد، وأفلح هذا الملك الغريب وبمعونة الحصري وغيره من العيارين المستوطنين أرض العراق والأجانب فرض طوق عزلة على أهل السواد، وجعلوا الحكم والإدارة والقضاء في العراق حصراً عليهم.
منذ انقلاب 1958 اعتمد العيارون أساليب جديدة في قمع واضطهاد أهل السواد في محاولات يائسة لدرأ خطر مطالبتهم بحقوقهم المشروعة في بلادهم وثرواتهم، الا وهي الحكومات العسكرية المدعومة بأحزاب عروبية وقومية مستوردة من خارج أرض السواد، وكلما فشلت فئة من العيارين العسكريين أو المدنيين، في احكام قبضتها على أهل السواد استبدلوها بفئة أخرى، وبالرغم من تنوع الواجهات بين عسكرية ومدنية وبين وطنية وبعثية وقومية وناصرية اتفقت جميعها على هدف اضعاف قوة أهل السواد ومنعهم من الوصول إلى سدة الحكم، وأصيب العيارون وحلفائهم بالذعر من انتشار عدوى الثورة الإيرانية إلى أهل السواد فشنوا حرباً ضروساً عليها بتمويل ودعم من حلفائهم العالميين والإقليميين، وعندما فشلت كل محاولات العيارين المحليين في إحراز نصر على الإيرانيين سعت القوى المتحالفة معهم من أدعياء العروبة وأعراب الجزيرة إلى توريط مرتزقة شركات النفط من الحزب الجمهوري الأمريكي في تنفيذ مخططهم، وهكذا تشكلت جبهة عريضة مؤلفة من دول الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والصهاينة المحتلين والعيارين وأدعياء العروبة والنواصب الطائفيين من أعراب الجزيرة حول هدف منع أو تأخير وصول أهل السواد للسلطة لا غير، لأن أهل السواد الشيعة، وعلى النقيض من العيارين والمستعربين وأحفاد أبرهة الحبشي في جزيرة العرب، أباة كرام يرفضون الذل والخضوع للأجنبي ويحرصون على أمن بلدهم والاستفادة من خيراتها.
ها نحن نشهد اصطفاف أعداءنا في جبهة واحدة على الرغم من التنافر الواضح بينهم، فلا موضوع للأمريكان هذه الأيام سوى الانتقاص من الشيعة بصورة عامة وشيعة السواد بشكل خاص، وفي الوقت الذي يفجر الإرهابيون سياراتهم المفخخة في مدينة الصدر الصامدة تنهال على منازل فقراءها صواريخ وقنابل المقاتلات الأمريكية، ولا يتوقف الأمريكان عن مطالبة حكومة المالكي، التي عطلتها مشاركة الإرهابيين، بإلغاء المليشيات الشيعية بدلاً من اجتثاث الإرهاب، وتقديم المزيد من التنازلات للسنة، وبعد أن لم يبقوا لنا سوى الجنسية فهل يريدون منا التخلي عنها ليستحل العيارون أحفاد هولاكو و انكشارية وغلمان ومماليك العثمانيين وجواريهم أرض السواد؟ ولا ينفك ملك الأردن الذي تعلم العربية بعد تسلمه للحكم من التحذير من الهلال الشيعي، فإذا أتاك مثل هذا التحذير من ذلك المملوك - ومن قبله أبيه- فتيقن بأنه مجرد ترجمة عن العبرية لسياسة ومشيئة الصهاينة، وهؤلاء الصهاينة لم يخفوا موقفهم المعادي الشيعة، فقد أفصحوا من قبل عن ذلك عندما أكدوا بأن عدوهم الحقيقي ليس صدام حسين وإنما إيران الشيعية، وبالأمس فقط خرج الصهيوني نتانياهو بتصريح من قناة السي أن أن بأن الهدف الحقيقي من احتلال العراق هو مجابهة إيران الإسلامية وما صدام حسين سوى "شقي من السهل تأديبه" على حد تعبير رئيس الوزراءالصهيوني الأسبق، ولعل أشد الحلفاء عداوة للشيعة هم حكام السعودية، ولا أظن شيعياً مخلصاً وعاقلاً يشكك في هذه الحقيقة، ويأتي مقال أحد أمراء آل سعود المنشور مؤخراً في صحيفة أمريكية حول استعداد النظام الوهابي للدفاع عن السنة إذا قامت الحرب الأهلية ليأكد مرة اخرى النوايا الشريرة التي لا يخفيها هذا النظام تجاه الشيعة، ولا تكتمل هذه الجبهة الشيطانية بدون أدواتها من داخل أرض السواد، وهم العيارون الأعداء قديماً وحديثاً، ومثل أسلافهم العيارين سيمتهم المميزة انتقاص أهل السواد. يعيب العيارون علينا نحن الشيعة أصحاب الإسلام الحق ديننا ويسموننا الرافضة، ونحن بالتأكيد رفضنا الواثبين على الخلافة من دون حق والعابثين بدين الله وشرعه وسنبقى رافضين لهم ولبدعهم ما بقي الدهر، والأعجب أن يعيرنا هؤلاء العيارون اللقطاء بـ"الصفوية"، وهذا دليل آخر على عنصريتهم وجاهليتهم المقيتة، ولو كنا صفويين لافتخرنا بذلك جهاراً.
إن المعركة الحاسمة بيننا نحن الشيعة والعيارين من بقايا النظام الطاغوتي البائد والإرهابيين وحلفائهم العالميين والمحليين قادمة، وهي معركة مفروضة علينا، لم نسعى لها ولم نحرض عليها، بل قدمنا كل التضحيات الممكنة لدرأ وقوعها، وتنازلنا عن الكثير من حقوقنا لإطفاء نارها، ولكنهم أبوا وأصروا على عدوانهم، وهم وحدهم يأججون المشاعر الطائفية ويقترفون أشنع الجرائم، بحيث لم يتبقى لصبرنا من بقية، ولم يتركوا لنا من بدائل سوى الاستسلام للإبادة الجماعية على أيديهم أو الدفاع المشروع عن أنفسنا ونساءنا وأطفالنا، المعركة واقعة لا محالة وستنجلي بإذن الله عن هزيمة العيارين ونهاية شرورهم، وتحقق الوعد الرباني بنصرة عباده المستضعفين، وعلينا واجب الاستعداد والتعبئة الآن، اللهم هل بلغت فاشهد.
https://telegram.me/buratha