( بقلم : السيد حسن الهاشمي )
عادت أيام عاشوراء وتعود، ولا زال حزن سرمدي يسري في طيات هذا الوجود.عادت أيام الأحزان وتعود، ولا زالت أنات يتامى الحسين تتردد أصواتها في هذه الأكوان.
عادت أيام الطف وتعود، والإمام المنتظر صلوات الله وسلامه عليه، في أيام غيبته الطويلة، سيدي يا صاحب الأمر:
كفى أسفا أن يمر الزمان*** ولست بناه ولا آمر
وأن ليت أعيننا تستضيء*** بمصباح طلعتك الزاهر
ولم تك منا عيون الرجاء*** لغيرك معقودة الناظر
الأيام التي وشحت بدماء سيد الشهداء، أريد أن أستشم منها شيئا من عطر كربلاء، عطر التضحية والفداء، عطر العز والشموخ، عطر الكرامة والكبرياء.
ومهما سطرت في كلامي من أمثال هذه العبائر، فهي خاسئة أمام سيد الشهداء، فلتخسأ الكلمات ولتخسأ المرادفات، في وصف هذا العطر المقدس، فإني لا أجد سبيلا للتعريف به إلاّ أن أقول هو عطر الحسين وكفى.
نحن أحوج ما نكون من أن نستنشق عطر الحسين صلوات الله وسلامه عليه خصوصا هذه الأيام التي يتعرض لها شيعة الحسين من تقتيل وتهجير وتفخيخ وإبادة وغيرها من الجرائم التي أبسط ما يقال بشأنها أنها بربرية بامتياز، والذي يهدّأ الروع والخطب وينكأ الجراحات أننا نتأسى بالحقبة الحسينية المتألقة ونستنشق ذلك العبير الذي تضمخ بالغربة والعطش والجراحات والدماء بأهول صورة، لكنها سمت وتسامت بالعزة والشرف والحرية والإباء والشمم والفكر الرائد والعقيدة السليمة والنظر الثاقب.
لعلنا ننتفع شيئا من أيام عاشوراء التي توظأت بدماء سيد الشهداء، وطالما أن دمه عليه السلام لا يحده حد كذلك منافع عاشوراء لشيعته لا تحدها حدود، لنقف وقفة على مهل لعلنا نستشم شيئا من شميم ري الحسين، نقف وقفة لننظر إلى أي شيء يمكننا أن ننتفع من تلك الفجيعة الشاهدة الخالدة، ثمة ثلاث نسمات نستنشقها من عطر وجود الحسين عليه السلام.
الأولى: انكسار القلوب في كل هذا العالم لاسيما قلوب أهل بيت العصمة.
الثانية: البراءة من أعداء أهل البيت والولاية لهم ولأوليائهم.
والثالثة: في ذكر ناموس الدهر الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف وتفاعله مع نهضة الحسين الخالدة.
للزمن خصائص تجعل من ذلك الزمن الذي ارتبطت به تلكم الخصوصية منزلة معينة، هذه الخصائص تارة تكون كونية، وأخرى شرعية، وثالثة يكون ليد الإنسان مسحة في صنع تلك الخصوصية، لما يفعله الإنسان من فعل.
ولا أريد التوغل في الآثار التكوينية والتشريعية، أو الآثار التي يتركها الناس في المقاطع المختلفة من الزمان. إنما أشرت إلى هذا المعنى، كي يكون مدخلا لحديثي بشأن خصوصية الزمان في الأحداث التاريخية، كمحرم ورمضان وغيرها، وفي شهر محرم الحرام حدثت فيها الخصوصيات الكونية والشرعية وتلك التي تركتها أفعال الحسين وأهل بيته وأصحابه في كربلاء، وأول أريج نستشمه من عطر المحرم ومن عطر سيد الشهداء في ملحمة كربلاء، خصوصية الزمان وقداسته في عتبة الوجود.
الخصوصية في ذلك الزمان تأثر القلوب طرا في هذه الخلائق بشكل عام، وقلوب شيعة أهل البيت بشكل خاص، وقلوب أهل بيت النبوة بشكل أخص، وقلب إمام العصر والزمان الذي هو بلا شك منكسر في هذه الأيام بنحو الأخص الأخص.
خصوصية عاشوراء في النفوس على مرور الأيام أثر تدركه العقول وتدركه الأدلة النقلية وتدركه الفطرة السليمة وتدركه النفوس التي توجهت بحقيقتها إلى قبلة العشق الإلهي، إلى الحسين عليه السلام، قلوب الخلق طرا تأثرت بتلك الأيام، التي أضفت على أن كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء، وكل شهر محرم حتى يقوم المهدي المنتظر الآخذ بالثار والمنتقم من الظلمة والجبابرة والطواغيت.
لا زال الانكسار الذي جعل ويجعل من تلك الواقعة خصوصية معينة، فقد تأثر منها الوجود، فالذي ينكسر قلبه على تلك الواقعة فإنما يوافق انكساره انكسار قلب إمام العصر والزمان، بل يوافق حزنه حزن الله تبارك تعالى، هذا ما نجده في الروايات الشريفة أن الإمام المعصوم هو قلب الله.
فالمصيبة التي تأثر منها الوجود تتضح معناها في زيارة عاشوراء، فالإمام الصادق عليه السلام يخاطب جده سيد الشهداء في زيارة عاشوراء: يا أبا عبد الله لقد عظمت الرزية وجلت وعظمت المصيبة بك علينا وعلى جميع أهل الإسلام وجلت وعظمت مصيبتك في السماوات على أهل السماوات.
إن كنا صادقين بأن مصيبة أبي عبد الله قد جلت وعظمت علينا أي على قلوبنا، فأين تعظم تلك المصيبة؟ تعظم المصيبة في القلوب، النص الشريف يشير بشكل إجمالي على الانكسار الذي عم أهل الأرض كما عم أهل السماء.
أما في الزيارة المطلقة الأولى التي يرويها شيخنا الكليني في كتابه الكافي الشريف تقول كما يذكرها صاحب مفاتيح الجنان: أشهد أن دمك سكن في الخلد واقشعرت له أظلة العرش وبكى له جميع الخلائق وبكت له السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن ومن يتقلب في الجنة والنار من خلق ربنا وما يرى وما لا يرى، أشهد أنك حجة الله وابن حجته وأشهد أنك قتيل الله وابن قتيله وأشهد أنك ثأر الله وابن ثأره وأشهد أنك وتر الله الموتور في السماوات والأرض.
في زيارة عاشوراء تبين الانكسار الإجمالي في قلوب الخلائق، أما في الزيارة المطلقة تبين الانكسار المطلق، وهو الانكسار العالمي الكوني الذي حدث بعد واقعة الطف، وهناك انكسار أعز من هذا الانكسار، وهو انكسار قلوب أهل البيت كما يقول الإمام الرضا عليه السلام: أن المحرم شهر كان أهل الجاهلية يحرمون فيه القتال، ولكن استبيحت فيه دماؤنا وهتكت فيه حرمتنا وسبيت فيه ذرارينا ونساؤنا وأضرمت النيران في مضاربنا وانتهب ما فيها من ثقلنا ولم ترع لرسول الله حرمة في أمرنا. إن يوم الحسين أقرح جفوننا وأسبل دموعنا وأذل عزيزنا، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون فإن البكاء عليه يحط الذنوب العظام.
لنجعل من قلوبنا محطا للانكسار على مصيبة الحسين عليه السلام، الذي لم يتمكن من البكاء فليتباكى، فالروايات كما مدحت البكاء مدحت كذلك التباكي، وكما مدحت الانكسار كذلك مدحت التعمل للانكسار، لعل هذه القلوب تكون موافقة لقلب الإمام المنتظر، حيث أن أحزان شيعة أهل البيت أحزان أئمتهم.
هذه النسمة الأولى التي نستنشقها من عطر سيد الشهداء، أما النسمة الثانية التي نستشمها من عطر سيد الشهداء الفواحة، هي البراءة الحقة والولاية الحقة، وهي اللسانية والقلبية والعملية، كما نقرأ في زيارة عاشوراء اللهم إني أتقرب إليك في هذا اليوم وفي موقفي هذا وأيام حياتي بالبراءة منهم واللعنة عليهم وبالموالاة لنبيك وآل نبيك عليه وعليهم السلام، وأوضح من ذلك دلالة تكرار البراءة واللعن مئة مرة، وهذا ما أكد عليه الإمام الرضا عليه السلام في وصيته لابن شبيب: إن سرك أن تسكن الغرف المبنية في الجنة مع النبي وآل النبي فالعن قتلة الحسين.
أما الفرائض القلبية ما جاء في زيارة الجامعة: نحن نشهد الله أنا قد شاركنا أولياءكم وأنصاركم المتقدمين في إراقة دماء الناكثين والقاسطين والمارقين وقتلة أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنة يوم كربلاء- بالنيات والقلوب والتأسف على فوت تلك المواقف التي حضروا لنصرتكم وعليكم منا السلام ورحمة الله وبركاته. فياليتنا كنا معكم فنفوز فوزا عظيما، فالتمني الواقعي الذي يعيشه الإنسان في كل وجوده هو البراءة اللسانية والقلبية.
أما البراءة الفعلية، ففي كلمات سيد الشهداء من العبر الواضحة والإشارات البينة والأدلة الصريحة التي تؤكد تلك الحقيقة ففي وصيته التي أوصى بها أخاه محمد بن الحنفية: إني لم اخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الإصلاح في امة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن لم يقبلني على ذلك اصبر حتى يحكم الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين.
والنسمة الثالثة التي نستعبرها من عطر سيد الشهداء هي تجديد العهد لثار الله الذي من المنتظر أن يخرج في عاشوراء ليأخذ بثأر الحسين وأهل بيته وأصحابه، حيث يظهر في اليوم العاشر من محرم، معلنا صرخته يالثارات الحسين.
وأيام عاشوراء مفعمة بالمآسي والويلات من قبيل غربة الحسين وجراحات الحسين وعطش الحسين وعياله وأصحابه عليهم السلام. هذه المآسي لا يمكن نكئها إلاّ بالسير على نهجه القويم الذي خطه لنا بدمه الطاهر لا لشيء إلاّ لنلتحق بركب الحضارة الإلهية التي قوامها صقل النفس وتشذيبها من كل الأدران والموبقات الدنيوية الزائلة، وهو مبتغى كل ذي لب لينجو من المهالك ويرسو على ضفاف النجاة.
السيد حسن الهاشمي
https://telegram.me/buratha