( بقلم : المهندسة بغداد )
عند إطلالة يوم جديد أصحو على أمل أن يمر اليوم بسلام علي وعلى جميع العراقيين وابدأ بالتهيؤ لمغادرة المنزل صوب مكان عملي الذي يقع في الجانب الأخر من العاصمة واعتدت في كل صباح أن استودع كل شيء في منزلي فلربما كان قدح الشاي في يدي هو الأخير ولربما كانت هذه أخر مرة أرى فيها وجوه أسرتي فأتأمل في النظر لكل شيء زوايا غرفتي ,كمبيوتري , كتبي, أوراقي, وأتوكل على الله وأغادر وصدقا إن هذه من أرقى النّعم التي انعم الله بها علينا في هذا الزمن إلا وهي نعمة معرفة قيمة الأشياء والوقت من اجل استغلاله في الصالح إلا أن جزع الإنسان يصور له إن المأساة مأساة لكنه لو تأمل وسال نفسه كيف تأتي المأساة من رب كتب على نفسه الرحمة لاتضح أمامه جليا إن لكل مأساة وجهه مشرق وباسم وفيه حكمة اكبر من تفكيرنا المحدود فالحمد لله على كل شيء .
وبينما نحن في الطريق واجهنا الازدحامات المعتادة في شوارع العاصمة لكن هذه المرة واجهناها بصمت لأننا نتوقعها فما حدث بالأمس سيوثر على مجريات اليوم حتما وكانت الأمس قد غفا على خبر اختطاف الموظفين فترقبنا غد غير مستقر.
استمر السائق يقلنا من منطقة لأخرى ومن شارع لأخر وكأنه كتب علينا أن نسلم على جميع بيوت العاصمة إلا أن أيقن إن لا طريق سوى خط سريع أغلقه الأمريكان وبينما نحن نهم بالصعود مرت بقربنا جنازة فسلمنا عليها وقلوبنا تقول ( انتم السابقون ونحن اللاحقون) وقلت في نفسي هنيئا لك سوف تذهب للنجف ولو كنت ميتا !! سبقتنا الجنازة التي تقلها سيارة تحوي رجالا إلى أن استوقفنا مد من السيارات وأناس يرجعون وما أن يمروا من سيارة حتى يسألهم راكبيها عن ما يجري إلا إن وصلوا لسيارتنا ووجوههم غاضبة فسكتنا ولم نسال فلقد أرهقتهم كثرة الاستفسارات .
ترجل احد زملائي من السيارة من اجل فهم ما يحدث ومن بعيد أشار ألينا بإيماءة إن أطفئوا السيارة ثم أتى ليخبرنا أن الطريق قد أغلق من قبل الأمريكان والبقاء الى إشعار أخر كانت الجنازة بقربنا بقينا جالسين قرابة ساعة بين من يريد الرجوع وبين من يقول هانت شعرنا بان شيء غريب يحصل فالطيران غير طبيعي وكل شي بدا غريبا . اتكأت على المقعد الذي اجلس إليه وعيني لم تنزل من التابوت الى ان كسرت لحظات صمتي زميلة بسؤالي ( كوليلهم خل نرجع احسن ) فأجبتها وان رجعنا نحن فماذا عنه؟ في إشارة الى المتوفى واستمريت أحدثها مستغربة كيف إن الإنسان يموت ويستمر يعاني من الازدحام والتأخير والامريكان ولاحظت ان دفانته عيونهم قلقة فالطريق أمامهم طويل فهم عبور الوحشية (اللطيفية سابقا) لم يأتي بعد !
وبعد ساعة ونصف فتح الطريق وانطلقت السيارات بانفراجة كبيرة إلا إن سيارتنا قد توقفت فهي دائما تخذلنا وتحب أن تتدلل على راكبيها فهمّ الشباب بالدفع وانطلقنا ولا زالت السيارة التي تحمل التابوت تبتعد تارة وتقترب أخرى حتى اسودت الدنيا أمام أعيننا ولم اشعر سوى بأفواه تتكلم عن عبوة ناسفة قد انفجرت أمام سيارتنا على مبعدة خمس سيارات فقط فلقد كان يمر رتل من سيارات الشرطة العراقية وفي مقدمتها مدرعة عراقية فجرت العبوة تحتها مباشرة و نحن في ذهول ما بعده ذهول من حجم الدخان المتكاثف والحصى والرمل وانعدام الرؤيا .
تمنيت أن تنجلي الغبرة لنعرف ما حصل وما إن رأينا المدرعة ولم يصبها شيء فرحنا لعدم وجود خسائر تذكر إلا أنني تذكرت سيارة الجنازة فهي كحالنا وقلت للمتوفى لربما تعز اهلك حد انك ستأخذهم معك وتأسفت عليه كثيرا وانتبهت الى زملائي وهم يحدثون رجلا أشيب الشعر يستقل سيارته بمفرده فما أن رائنا حتى قال ( عمي راحت اعصابنا ) لقد أدركنا ان الرجل فقد السيطرة فلم يستطيع القيادة من الرهبة إلا انه تبسم بوجهه العراقي الأصيل قائلا ( نيالكم انتو هوسة اني وحدي ) وبينما نحن نتحدث إليه حتى انفتحت علينا النيران حيث إننا لم ندرك إن العبوة قد استهدفت شرطتنا أي ان العبوة ذات سيطرة عن بعد وكانت الاطلاقات من مكان بساتين ونخيل يصعب فيها الرؤيا ومن كلا الاتجاهين .
وهنا كان موقف الشرطة الأبطال رائعا فلقد حركوا السيارات المدنية بسرعة يحموننا بأجسادهم الهزيلة وكلهم شهامة وبطولة ويرمون الارهابين باستبسال وهناك من ارتبك واثر ان لا يتحرك خوفا من عبوات جديدة الا إن صرخة الشرطي تحثك على سماع اوامره في هذه اللحظة خشيت أن تتدلل سيارتنا إلا إنها من الخوف قد انطلقت بأعلى سرعة ؟!.
وفي خضم هذه الأحداث رأيت سيارة الجنازة وهي تبتعد كوننا سلكنا طريقا دنيويا أما هو فلقد رحل الى مثواه الأخير تمنيت أن يصل بسلامة الى مثواه الأخير ويرجع أهله الى دنيانا سالمين لقد رأى العجب بعد موته وهو في بغداد ولا اعلم ماذا رأى في بقية الطريق !!
كانت ساعات قليلة لكنها مليئة بالإحداث وفي جانب واحد من العاصمة فما أن عبرنا الى الجهة الثانية حيث مكان عملي حتى تبسمت لدجلة متأملة وبنظر المودع ودعته على أمل أن إلقاءه بعد ساعات وأنا راجعة لمنزلي بسلام
نسال الله أن يجعل معاناتنة في الدنيا لا الآخرة وان لا يقبضنا الله إلا وهو راضي عنا وان ندفن بهدوء وسكينة بعيدا عن الازدحامات والإرهاب الذي يطاردنا وان متنا وغادرنا الدنيا.
أختكم المهندسة بغداد
https://telegram.me/buratha