( بقلم : علي حسين علي )
أصيب الجسم السياسي العراقي بالدهشة والاستغراب الشديدين جراء ثلاثة تصريحات لزعماء كتلة معنية بالعملية السياسية الجارية..ففي عشية الخامس من تشرين الثاني أدلى أحدهم بتصريح قال فيه أن كتلته ستنسحب من العملية السياسية بأكملها إذا لم تستجب باقي الكتل الى مطاليبها !! تلاه آخر جاء تصريحه في نفس الاتجاه أيضاً، وكان خاتمة التصريحات في اليوم السادس من هذا الشهر، إلا أن الشخصية التي اطلقت التصريح المماثل للسابقين أضافت إليه تهديداً خطيراً مضمونه هو أن الكتل السياسية التي يمثلونها في البرلمان والحكومة وباقي مؤسسات الدولة لن تكتفي بالانسحاب من كل هذه التشكيلات في حال عدم الاستجابة لمطاليبها، بل ستنضم الى(المقاومة)!! وقد شغل هذا الجزء من التصريح الخطير والمثير الكثير من وسائل الاعلام المحلية والعربية والدولية، وكان محل بحث وتعليقات المراقبين السياسيين أيضاً.
يأخذ المراقبون السياسيون على مطلق هذا التصريح التصعيدي الكثير من الملاحظات، أولها: انه ما كان عليه أن ينقل الصراع السياسي من الاروقة الداخلية للبرلمان والحكومة الى خارج تلك الساحة، خصوصاً وأنه يتولى منصباً رفيعاً في الدولة يتيح له ايقاف أي قانون أو قرار باستعمال(الفيتو) ضده..فنقل الصراع الى الخارج، أي الى الرأي العام، لن يكون في مكانه الصحيح بل على العكس من ذلك.
وثانيها: أن من حق أي طرف أو كتلة سياسية أن تتخذ الموقف أو القرار الذي تراه في صالحها، ولكن قرار الانسحاب ينبغي أن تسبقه الكثير من المشاورات مع الاطراف الأخرى، وربما يكون هذا القرار سليماً في حال لم يتم التوصل الى اتفاق معها بشأنه.
وثالثها:أن المشاورات أو الحوار مع الاطراف والكتل السياسية كان مقرراً له أن يبدأ في الأيام القليلة المقبلة، فلماذا هذا الاستعجال بنقل الصراع الى الشارع السياسي والاعلامي ولما يتم بعد مناقشة القضايا المختلف عليها ضمن الآليات الرسمية والشرعية؟.
ورابعها: إن الانسحاب من الحكومة والبرلمان أمر يخص الجميع، فدخول كل الأطراف الى العملية السياسية كان قد الزم جميعها بمبدأ التوافق..ولعل الطرف الذي يهدد بالانسحاب الآن اكثر من غيره متمسكاً بالتوافق ومستفيداً منه أيضاً، فهل والحالة هذه أن يضرب(التوافق) عرض الحائط ويتخذ قرار الانسحاب من العملية السياسية منفرداً؟! وخامسها: هو الخطير، والخطير جداً، فالزعيم السياسي مطلق التصريح الناري هذا قد هدد الآخرين بالالتحاق بـ(المقاومة) في حال لم تستجب لمطاليب كتلته! فالى أية جهة سيوجه سلاحه مثلاً؟ الى القوات متعددة الجنسية؟ أم الى العراقيين الشركاء في العملية السياسية؟ إذا كان هذا الزعيم قد اكد في القسم الآخير من تصريحه لاحدى الفضائيات أنه لا يرغب لا هو ولا كتلته بانسحاب القوات متعددة الجنسية من العراق في الوقت الحاضر، وانه ينتظر أن تقوم تلك القوات الاجنبية بايجاد توازن في القوات المسلحة العراقية واعادة بنائها حتى تكون قادرة على ضبط الأمن في البلاد..وبذلك لا يكون هدفاً آخر لسلاحه في حال انضمامه الى(المقاومة) غير الشركاء السياسيين العراقيين والذين يمثلون أغلبية الشعب العراقي. وبمعنى أدق سيكون الشعب العراقي بمعظمه من ستتوجه إليه بنادق(المقاومين) الجدد!! والملاحظة السادسة التي يرفعها المراقبون والمحللون السياسيون هي افتراض انسحاب الكتلة المعينة من الحكومة والبرلمان وباقي المؤسسات، لأن الأمر بيدها إذا ما أصرت على ذلك..ولكن من يضمن أن تقبل(المقاومة الشريفة)كل من يريد الالتحاق بها؟ خصوصاً وأنها قد أدانت كل من دخل العملية السياسية العراقية بالردة وأحلت قتله، علماً بأن المجرم الزرقاوي ومن بعده المصري لا يقبلان التوبة، وان قبلاها فبعد قتل المرتد!.ويختم المراقبون والمحللون السياسيون ملاحظاتهم بسابعة فيها الكثير من السخرية السوداء، لم نر لزاماً علينا ذكرها، خصوصاً واننا نتوخى الجدية عند تناولنا لموضوع خطير.
نعتقد، بعد أن استعرضنا آراء المراقبين والمحللين السياسيين وملاحظاتهم إزاء التصريحات المتلاحقة والمتزامنة مع حدث سياسي آخر، هو أن بعض السياسيين في بلادنا لا يتسمون بالواقعية ولا يدركون الحقائق إلا بعد فوات الأوان..ونعتقد أيضاً بأن هناك من يتلقى اشارات أو يتابع تحركات سياسية خارجية أو أقليمية ويبني عليها قصوراً من الرمال، وكلنا تابعنا الانتخابات الأمريكية الأخيرة، ولكن السياسيين الواقعيين من بيننا من هو يعتقد بأن سياسات الدول الكبرى، والستراتيجية منها على وجه التحديد، ليست قائمة على هذا المسؤول أو ذاك، وليس لها إرتباط وثيق بفوز هذا الحزب أو خسارة ذاك كلياً أو جزئياً.
وكان على السياسيين العرب تحديداً أن يتعظوا من نصف قرن من الزمان حينما كان بعض الحكام من العالم العربي يربطون مصيرهم بفوز الحزب الديمقراطي الأمريكي، بعد أن يكون الحزب الجمهوري الأمريكي قد وعدهم كثيراً، أو هكذا تصوروا! وحينما يتولى الديمقراطيون الحكم في أمريكا يصاب الكثير من السياسيين العرب بخيبات أمل شديدة، ويتمنون لو أن الذي حدث لم يحدث!!.
بالتأكيد لا نقلل من اهمية الانتخابات الأمريكية وانعكاساتها على بلادنا والشرق الاوسط، ولسنا نأمل-كغيرنا-من الراكضين وراء السراب غير أن تكون الانتخابات الأمريكية الأخيرة وما أفرزته من نتائج فرصة لمراجعة مواقف خاطئة لو تم مراجعتها من قبل الساسة الأمريكيين والتوقف عندها، فان بلادنا ستقترب كثيراً من حالة الأمن المستقر، ومن المحتمل أن تتصاعد وتائر الاعمار..أما توقع حدوث انقلاب دراماتيكي في السياسة الأمريكية الخارجية فذلك هو الجهل المطبق تماماً.
ونعتقد كذلك، بأن التقاط البعض لتصريحات سياسية في دول عظمى مفادها بأن الادارة الأمريكية الحالية باتت تفضل الاستقرار على الديمقراطية، وانه يمكن استغلال ورقة الاستقرار لانتزاع ورقة المكاسب الديمقراطية التي حققها العراقيون بتضحياتهم ودمائهم وصبرهم، فان هؤلاء السياسيين أقل ما يقال فيهم أنهم لا يدركون عمق التحوّل الذي حدث في المجتمع العراقي خلال السنوات الثلاث الفائتة، فالعراقيون قد طووا صفحة المعادلة الظالمة التي كانت سائدة لاكثر من نصف قرن..وطي هذه الصفحة كلفهم أنهاراً من الدماء وكما هائلاً من التضحيات والاحزان..فكيف لهم أن يقبلوا بالعودة الى عهود الظلم والاستبداد؟كيف؟!.
https://telegram.me/buratha