( بقلم : عبد الكريم الجيزاني )
القراءات التي استمعنا اليها اثناء وبعد مناقشة تشكيل الاقاليم (الفيدرالية) في مجلس النواب وجدنا ان اغلب هذه القراءات لا تعتمد في بعدها السياسي والاداري أي نظرية تتسق او تتطابق مع ما طرح الا من بعض الاستثناءات والتي اشك في ان روادها قد قرأوا التاريخ جيدا واستفادوا من تجاربه.
فدعاة المركزية الذين تحججوا بان النظام الفيدرالي هو خطوة متقدمة للتجزئة لم يلتفتوا الى البعد التاريخي (النيروني- الفرعوني) فهاتان الديكتاتوريتان حسب اصطلاحنا المعاصر قد حملت معها ومنذ اللحظة الاولى لولادتها بذرة (الفيدرالية) او ما كان يسمى بنظام الولايات هذه الحقيقة التاريخية اثبتت وجودها بعد ان تسلط الجبابرة القساة على شعوبهم ومارسوا بحقهم ابشع انواع الانتهاكات لحقوق الانسان وحولوا شعوبهم الى عبيد مملوكين للحاكم وللسكان كما فعل نيرون وفرعون وغيرهما من الطغاة المتجبرين الا ان هذه العبودية وهذه الانتهاكات ولدت حقدا كبيرا على السلطة المركزية الحاكمة من قبل الشعوب المستعبدة فلم تكن تدين بالولاء للسلطة بل كانت تتحين الفرص للانقضاض على المركزية التي تمثل السلطة الشمولية التي قهرتهم وسلبتهم ابسط حقوقهم وفي لحظة ضعف المركز انقضت هذه الشعوب على حكامها فاسقطتهم كما في (روما) وحولت الدولة المركزية الى ولايات متعددة استقلت عن المركز عندما سنحت لها مثل هذه الفرصة الذهبية التي حررتهم من العبودية وهذا ما حصل كذلك مع فرعون موسى وما آلت اليه الدولة الفرعونية واندحارها على يد النبي موسى(ع).
ان من المحال ان تجد على وجه الارض حاكما دكتاتوريا استطاع ان يؤلف بين قلوب مواطنيه او ان يحظى بحبهم واحترامهم له.. فالمركزية هي التي تخلق النظام الشمولي وهي التي تعزز الديكتاتورية وهي الخطر الاكبر على حقوق المواطنين وسلب ارادتهم وسرقت ثرواتهم بعد ان تحولهم الى عبيد لا يحسنون سوى (السخرة) باستثناء طبقة صغيرة (الحاشية) التي تعين الدكتاتور على قهر المجتمعات ليبقى على رأس السلطة اكبر قدر ممكن من الزمن فهم يستبدون ويستأثرون ويسحقون ويقتلون ويسجنون حسب اهوائهم وامزجتهم فهذه الحاشية تتكون احياناً من افراد العائلة وربما من افراد القبيلة او عناصر الحزب اذا كان النظام حزبياً والانظمة اليوم في العالم الثالث كلها تقوم على هذه الاسس والقواعد ولا تخرج عنها قيد انملة مهما ادعت برعايتها لشعوبها ومهما شكلت من برلمانات صورية غير منتخبة ديمقراطياً بل تأتي عادة بالتزكية من قبل النظام المركزي الشمولي الحاكم الذي يختارها حسب ما يراه هو.
التأريخ البشري منذ النشأة الاولى للانسان على وجه الارض وحتى تشكيل الدول لم يحدثنا عن حاكم شمولي استطاع ان يعدل بين مواطنيه باستثناء حكومات وادارات انبياء الله (ع) فهم معصومون من الخطأ والزلل وهم دعاة العدل والانصاف ودعاة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يبغون ولا يستأثرون ولا يظلمون لكن غيرهم من البشر - الحكام- لا نجد لهم اثراً يحدثنا عن عدلهم وانصافهم لشعوبهم بل على العكس كانت كل آثارهم تدل على التدمير والقهر والتسلط والعبودية.
ان دعاة المركزية عليهم ان يستقرئوا التأريخ جيداً وليقرأوا نفسية الانسان التي عادة ما تنزع الى امتلاك كل شيء فهي امارة بالسوء الا ما رحم ربي وهذا لا يمكن ان يقبل بالظلم والطغيان فلا يقبل ان يكون حاكماً على هذه الشاكلة بل ينأى بنفسه من فتنتها ونتنها، فهؤلاء - دعاة المركزية- هم بلا شك لا يشكلون سوى الحاشية التي تحدثنا عنها في المقدمة وان خسارتهم لمواقعهم وامتيازاتهم ومنافعهم تدفعهم للوقوف بوجه النظام الفيدرالي بتلك الحجج التي لا تصمد امام التأريخ القديم ولا المعاصر فهم ليسوا حريصون الا على تلك المواقع والامتيازات والمنافع ومحاولة العودة اليها بأي ثمن وليست دوافعهم ضد التجزئة او الانفصال كما يدعون.الفيدراليون الجدد والذين يريدون ان تتحول كل محافظة من محافظات العراق الى اقليم فهؤلاء لم يستفيدوا من تجارب غيرهم ممن شكلوا اقاليم صغيرة باعتبار ان صغر حجم الاقليم المزمع تشكيله سيكون محط انظار الطامعين الاقوياء وحتى من قبل الاقاليم الصغيرة الاخرى التي تجاوره اذا امتلكت قوة الضم والقضم ونحن عندما نريد ان نناقش حقيقة هذا الخطر علينا ان نضع التجارب التأريخية امام انظارنا لنقف على حقيقة هشاشة هذا الطرح ونبعد الخطر عن بلدنا ومواطنينا، ولنأخذ مثلاً حياً من (عصر الولاة) في الاندلس وخاصة تأريخ امراء الطوائف من المرابطين والموحدين وبني الاحمر وغيرهم بعد ان تقوض صرح الدولة العربية في الاندلس وللاسباب ذاتها من الحكم الشمولي الاستبدادي المطلق حيث نشأت على اثر ذلك التفكك مدن كبرى (محافظات) حسب اصطلاحنا الاداري الحاضر وقام فيها نظام سمي آنذاك بنظام امراء الطوائف اذ اخذت العناصر المختلفة تقتسم تلك المحافظات كالصقالبة والبربر والعرب وراحت تتنافس فيما بينها بل ودخلت في حروب متعددة مما اضعفها كثيراً فكان امراؤها يؤدون الجزية وهم صاغرون لنصارى الشمال ( ملك قشتالة) الامر الذي اغرى الفونس السادس ان يحلم باستعادة كل الاندلس وطرد العرب والمسلمين منها وهذا ما حصل بالفعل فسقطت قرطبة ثم اشبيلية ثم غرناطة ثم سرقسطة ثم طليطلة وبعدها بلنسية ومرسية وبطليموس وغيرها من المحافظات التي اخضعها امراء لا يقلون خطراً وضرراً من دكتاتور المركز فحولوا هذه المحافظات الكبيرة الواسعة الى دويلات صغيرة ضعيفة متحاربة ومتنافسة فيما بينها مما اثار طمع الدول المجاورة لها بابتلاعها الواحدة تلو الاخرى فخسر الامراء انفسهم واماراتهم معاً.
هذا المثال التأريخي الحي يمكن ان يعطينا عبرة ودرساً بليغاً من ان تشكيل اقاليم صغيرة سوف يخضع هذا التشكيل لاعتبارات لابد من الوقوف عندها:اولاً: الخوف من تسلط ذوي النفوذ المناطقي على الاقليم بعيداً عن الكفاءة الادارية والعلمية والثقافية وهذا ما سيخلق بالتأكيد دكتاتوراً صغيراً يستبيح كل شيء بنفوذه وسطوته وقدراته، واذا ما ضعف فبالتأكيد سوف يستنجد بدول مجاورة لحماية عرشه ونحن نعلم ان الطامعين بثروات العراق هم غير قليل.ثانياً: نفس هذا الحاكم اذا اعتمد على عائلته او عشيرته فسيخلق جواً ملبداً وعداءً من قبل قوى وعشائر وعوائل اخرى تعتبر نفسها قد اقصت عن مراكز القرار او وقع عليها حيف مما يؤدي الى الفتنة والاقتتال.ثالثاً: اذا اعتمد هذا الحاكم على حزب معين فسيستعدي الاحزاب الاخرى ضده وبهذه الحال ربما سيستخدم القوة الغاشمة لاسكاتهم ويتحول الى دكتاتور آخر فلا تبقى اية قيمة للديمقراطية التي يريدها الجميع بعد العناء من الحكم الشمولي المباد.
اذن ما هو الحل الامثل لهذه المشكلة؟رغم ان عالمنا اليوم يختلف اختلافاً كبيراً عن العوالم السالفة باعتبارها بدائية لم تتحضر بعد ولم تدخلها الثورات الصناعية والطفرات التكنولوجية وثورة الاتصالات الحالية والنظريات الادارية وانظمة الحكم المتنوعة الا اننا نرى وكمثال لو ان المحافظات الاندلسية لم تتنازعها الاهواء او تتحكم بها القبلية العنصرية او النزاعات الفردية ولو اتحدت وشكلت اقليماً واحداً لما منيت بهذا الفشل الذريع، ولما تفككت واصبحت لقمة سائغة للطامعين بها من المحيط الاطلسي حتى البحر الابيض المتوسط ولبقيت اقليماً واسعاً قوياً تهابه الدول المجاورة ولا يخاف عليه من الداخل اذا اتصف نظام الحكم فيه بالعدل والمساواة واعطاء الحقوق والاعتماد على الكفاءات وليس على الولاءات الحزبية او القبلية او الطائفية.
لذلك نحن نرى ان تشكيل اقليم الوسط والجنوب والذي سوف تنضم اليه تسع محافظات أي ما يعادل نصف محافظات العراق وربما يشكل اكثر من نصف السكان سيجعله من القوة بحيث لا يستطيع طامع ان يفكر في يوم ما ان يستولي عليه او ايذائه وان هذا الاقليم سوف يكون اكبر واقوى من اقليم كردستان العراق خاصة وهو يطل على منفذ مائي دولي وارض زراعية شاسعة وثروات كبيرة يعتمد عليها عصب الاقتصاد العراقي كله وان هذا التشكيل سوف يبعد الى الابد اية نزعة دكتاتورية او انفصالية او طائفية او عنصرية لانه يتشكل من كل الطيف العراقي الكامل الذي يؤمن بالنظام الديمقراطي وان أي حاكم سوف لا يأتي للسلطة الا عن طريق الانتخابات وليس عن طريق فرض الارادة بالقوة الغاشمة فلا سلطة لحزب ولا لمذهب ولا لقومية وانما هي سلطة الشعب العراقي برمته الذي آمن بالنظام التعددي الفيدرالي الديمقراطي وتبادل السلطة سلمياً وسيكون كذلك حجر الزاوية في بناء عراق جديد موحد ارضاً وشعباً عادلاً في توزيع الثروات على كل العراقيين بدون استثناء ولا استئثار وبسط الامن والاستقرار واعادة الحياة الحرة الكريمة لكل الشعب العراقي من خلال اعادة ما دمرته الحرب وما دمره وأخره النظام البائد.
https://telegram.me/buratha